جرائم وحوادث

حرائق النخيل في الشمالية .. موت الأحلام “اللسة صبية”


فجأةً بدأت ألسنة اللهب تتصاعد من ناحية بساتين النخيل، ما استدعى أهل المنطقة إلى الإسراع نحو مزارعهم وبدأت مكبرات الصوت من مآذن المساجد تدعو القرى المجاورة لتقديم الدعم والعمل على إخماد حريق مجهول نشب في أشجار النخيل، أصبح هذا مشهداً مُعتاداً في الولاية الشمالية بكامل محلياتها السبع، بعد أن تصاعدت وتيرة حرائق النخيل التي قضت على مئات الآلاف من الأشجار خلال السنوات الماضية.

حرائق النخيل مجهولة المنشأ في الولاية الشمالية، بدأت تظهر كظاهرة منذ ما بين 10 إلى 15 سنة، وكانت محصورة بمناطق المحس في محليات البُرقيق وعبري في المنطقة المحصورة ما بين شمال دنقلا وجنوب مدينة وادي حلفا، ولم تخلُ أسبابها من الحديث عن نظريات المُؤامرة كون أن الحكومة كانت تنوي قيام سدي دال وكجبار فيها، وتعمل على إنهاء مزارع النخيل ليسهل ترحيل المواطنين لاحقاً، لكن تلك روايات تقابلها روايات أخرى تحكي أن تسبب عدم نظافة المزارع في نشوب الحرائق، بينما تحدثت روايات عن أيادٍ أجنبية في الحرائق.

بداية

بدأت حرائق بساتين النخيل تظهر بصورة متقطعة من حين إلى آخر في نهاية القرن الماضي، لكن وتيرتها بدأت تتزايد تدريجيّاً منذ العام 2002، وفي السنوات العشر الأخيرة، تحوّلت الحرائق إلى ظاهرة خطيرة مُزعجة بمُعدّل أكثر من ثلاثة إلى أربعة كبيرة في العام الواحد، مع اتساع المساحات التي تلتهمها النيران، لكن هذا العام شهد تطوراً جديداً، إذ بلغت فيه الحرائق أكثر من عشرة، شهد الأسبوع الماضي أربعة منها في محليتى الدبة ومروي.

حرائق حديثة

قبل أقل من شهر، نشب حريق كبير في منطقة أرقي في محلية الدبة سبقه حريق هائل في منطقة نوري بمحلية مروي، قبل ان تعود الحرائق مجدداً لمحلية مروي وتنشب في منطقة حزيمة وتقضي على نخيل في مساحة 4 سواقٍ، أعقبه حريق أمس الأول نشب في منطقة الكرفاب تزامن مع حريق في نفس التوقيت في منطقة البرصة.. ووجد المُواطنون أنفسهم أمام واقع غريب عليهم، قضت فيه النيران على أحلامهم كون أن النخيل الذي تعرّض للحريق في مرحلة الاثمار وتبقت له فقط ثلاثة أشهر لتنضج ثماره التي يعتمد عليها المُزارعون كلياً في تسيير أمورهم الحياتية لعام كامل.

موت أحلام

حرائق النخيل تمثل كابوساً مزعجاً للمزارعين، وذلك عبّر عنه المزارع من منطقة حزيمة حيدر عبد العاطي في حيث لـ(الصيحة) بقوله “ليس هناك أقسى من أن ترى أحلامك تموت أمام ناظريك دون أن تسطيع الحراك وإنقاذها”، مبيناً أن النيران نشبت قبل ثلاثة أيام فجأةً وامتدت لتشمل ساقية شاريكاب وساقة حمد وعددا من السواقي الاخرى، وقضت على مئات النخلات المثمرة، لافتا الى ان مصدر الحريق لا يزال مجهولاً، اذ أن المنطقة التي نشب فيها خالية من الأوساخ والجريد الذي يمكن أن يعمل على نشر الحريق، فضلاً عن انقضاء موسم الرياح التي دائماً ما تنتشر الحراق فيها، لكنه في ذات الوقت استبعد أن يكون الحريق بفعل فاعل عمد لإشعاله بِنيّة حرق المزارع.

عدم اهتمام

وفي تصريحات سابقة، اعتبر مدير إدارة الزراعة في الولاية الشمالية، مالك محمد إبراهيم، تركّز حرائق النخيل في المناطق الشمالية من الولاية إلى اهتمام مزارعي المناطق الجنوبية وعنايتهم ببساتينهم، مقابل إهمال مزارعي المناطق الشمالية، مبيناً أن هجرة الشباب وتناقص الاعتماد على زراعة النخيل كمصدر رئيسي للدخل بالمناطق الشمالية، انعكس في صورة إهمال واضح للبساتين، وعدم نظافتها من الأعشاب وبقايا الأشجار الجافة، كما أدى عدم الالتزام بالمسافات العلمية بين كل نخلة وأخرى، إلى تكدُّس الأشجار وتحويل البساتين إلى غابات شبه عشوائية، ما يؤدي إلى صُعُوبة السيطرة على الحرائق، ويتسبب في سرعة انتشارها وتدمير مساحات واسعة وأعداد كبيرة من الأشجار.

موت الولد

وأوضح المزارع محمد الحسن عبد العاطي لـ(الصيحة) ان احتراق النخلة امام ناظريك يماثل تماماً احتراق فلذة كبدك، وقال “زي موت الولد” كون أن العلاقة بين المزارع والنخلة دقيقة التفاصيل وتماثل علاقة الإنسان بأبنائه ورعايتهم، مشيرا الى ان النخلة تحتاج الى 5 سنوات من الرعاية قبل ان تبدأ الإنتاج وتدخل مرحلة الإنتاج التجاري في عمر 10 سنوات وتستمر ربما لـ(50) عاماً في الانتاج، وبالتالي فان علاقة المزارع بالنخلة التي غرسها بيديه قد تمتد لاكثر من 20 عاماً ليجدها فجأةً أمامه تلتهما النيران، لافتا الى ان كثيرا من المزارعين خاصة كبار السن لم يحتملوا احتراق نخيلهم ودخلوا في صدمات عنيفة اودت بحياة بعضهم، ولفت الى ان حرائق النخيل دائما ما تكون والنخلة تحمل ثمارها فتكون بذلك الخسارة مزدوجة بين خسارة المحصول الذي يعتمد عليه المزارعون في حياتهم بالاضافة لفقدان النخلة التي يتطلب تعويضها اكثر من 10 سنوات.

ظاهرة مقلقة

وقال وزير الزراعة المكلف بالولاية الشمالية عبد الرحيم سيد احمد لـ(الصيحة)، ان ظاهرة حرائق النخيل مقلقة جداً للوزارة كونها تكررت كثيراً في الفترة الاخيرة، مشيرا الى ان اسبابها تعود لإهمال المزارعين لبساتين النخيل، كون ان المحصول اصبح غير مجدٍ للاعتماد عليه كلياً، ما جعلهم يبحثون من مداخيل اخرى وإهمال نظافة النخيل، ما يجعل انتشار النيران فيه حال اشتعالها كبيرا جدا، واكد ان وزارته تعمل جاهدة على إعادة الاهتمام للنخيل عبر البحث عن ادخال صناعات تحويلية أو فتح فُرص للتسويق لكي يعود الاهتمام بالنخيل من جديد، مشيرا الى ان الحرائق قضت على عدد كبير جدا من اشجار النخيل، لافتا في ذات الوقت لضيق امكانَات شرطة الدفاع المدني في الولاية، فضلا عن عدم وجود شوارع تسمح بمرور عربات المطافيء لتصل الى مواقع الحرائق، بالاضافة لانحصار مراكز الدفاع المدني في المدن والمراكز الكبيرة، ما يجعل وصولها لمواقع الحرائق في القرى يتطلب وقتاً تكون فيه النيران قد التهمت عددا كبيرا من الاشجار، وشدد على أهمية أن تكون هناك مضخات صغيرة في القرى لمكافحة النيران حال اندلاعها.

ضد مجهول

واوضح عبد الرحيم ان كل بلاغات حوادث احتراق النخيل لم تسجل بفعل فاعل، وسُجِّلت جميعها لاسباب مجهولة، مرجحاً اشتعال النيران بسبب الإهمال في إطفاء النيران التي يتم إشعالها لحرق مخلفات النظافة، وطالب المزارعين للاهتمام بأشجار النخيل لتقليل فرص اشتعال الحرائق.

إحصاءات

وكانت شرطة الدفاع المدنى بالولاية الشمالية، قد أعلنت عن تقديرات خسائر حرائق النخيل في عدد من مناطق الولاية خلال السنوات العشر الأخيرة، وقالت ان الخسارة بلغت 41 مليوناً و728 ألفاً و800 جنيه، بينما بلغت القيمة المادية التي تمت حمايتها 442 مليونا و705 آلاف و304 جنيهات.

وكشف مدير إدارة الدفاع المدني بالولاية العقيد إبراهيم طه الشوش خلال ورقته التي قدمها في ورشة “ظاهرة حرائق النخيل”، عن ارتفاع نسبة الحرائق خلال السنوات العشر الأخيرة إلى 375%، وقال إنَّ الحرائق خلال عام 2007 بلغت 53 حريقاً لتصل بنهاية العام 2016 إلى 186 حريقاً، بمتوسط 116 بلاغا سنوياً، وقال ان عدد أشجار النخيل المحترقة وصل إلى ما يقارب مليون و390 ألف نخلة من جملة 3840150 بنسبة 36%، وأرجع أسباب الحريق لعدم النظافة الدورية، بجانب العوامل الطبيعية.

الخرطوم ـ محجوب عثمان
صحيفة الصيحة