اقتصاد وأعمال

عمارة الذهب .. ماذا يدور في دهاليز البِناية؟؟

بلُغة الأرقام، وتتبُّع الإحصائيات الواردة على لسان أهل الشأن، نجد أن السودان يأتي في المركز الثاني لإنتاج المعدن النفيس، كما أنه يدخل في قائمة العشر الأوائل عالمياً، تلك إشارة لابُدَّ من ربطها بـ (عمارة الذهب) الكائنة بالخرطوم، وتحديداً (قلب) السوق العربي، ذلك لأنها أكبر سوق لتداول (الدَّهب المجمَّر) بالبلاد، ومن هنا تنساب الأسئلة: متى أُنشئت؟ ومن هُم مؤسِّسوها؟ وكم حجم المتداول من الذهب يومياً بـ(العمارة)؟ وهل هي (مأوى) للسوق الموازي للدولار؟ ولماذا تحاصرها الشرطة بين الحين والآخر؟ وماذا عن السلاح الذي قِيل إنه يوجد بها؟ كل هذه الأسئلة تجدون إجاباتها بين السطور التالية.

بين الأمس واليوم
حتى نهاية العام 1990م لم تكن عمارة الذهب بشكلها الحالي، بل كانت عبارة عن محال مُتفرِّقة تتخذ من الناحية الجنوبية مقراً لها، وتختلط معها في الناحية الأخرى مطاعم ومقاهي، وغير ذلك من الأنشطة التجارية المختلفة.. بتلك العبارات بدأ شيخ الصاغة، بابكر تبيدي، حديثه لـ(السوداني)، وأضاف:
في سنة 1991م تقدَّم تجار الذهب بمقترح لهيئة الأوقاف بتأسيس برج من (11) طابقاً ليكون مُتخصِّصاً في هذا المعدن فقط، على أن يكون الإنشاء شراكة بين الأوقاف والتجَّار، لكن الأوقاف لم تلتزم بوعدها، ما جعل عبء التأسيس لخمسة طوابق؛ إضافةً للأرضي يقعُ على عاتق التجار. ويمضي شيخ الصاغة بقوله إنَّ (80%) من التجار الحاليين بعمارة الذهب هُم من المؤسسين، وعلى رأسهم يقفُ عثمان عبد الله، محمد الجمل، محمد خير، وشخصه، إضافةً لآخرين لا يسع المجال لذكرهم.

ثلاثة أجانب فقط
وبسؤالنا لشيخ الصاغة عن عدد المحال التجارية بهذا المبنى الضخم، قال: يوجد بكل طابق (120) محلاً تجارياً، وبضرب هذا العدد في (5) طوابق إضافة للأرضي، يكون مجموع المحال التجارية بالعمارة كلها هو (720) محلاً متخصصاً في بيع وشراء الذهب، وكل هؤلاء يحملون الجنسية السودانية، ما عدا (3) فقط من الأجانب، ويمارسون عملهم من خلال (معمل تحليل). ويشير “بابكر تبيدي” إلى أنَّ الطابق الأرضي مُتخصِّص في بيع وشراء الذهب المشغول الذي يأتي جُلَّه من الخارج، بحيث يتم نقله كخام من السودان إلى دول الخليج في أغلب الأحيان، وهناك يُشغل، ومن ثم يأتي بشكله الذي نراه به معروضاً في المحال التجارية.

(100) كيلو ذهب يومياً..!!
ويقول الأمين العام لشعبة مصدري الذهب، عبد المولى حامد القدَّال، لـ(السوداني): إنَّ السودان يحتل المركز الثاني على مستوى أفريقيا في إنتاج الذهب بعد جنوب أفريقيا، وعمارة الذهب هي أكبر سوق للتداول بالسودان، لأن كل المنتج بمختلف ولايات السودان يصُبُّ في هذه العمارة بإجمالي إنتاج يصل إلى 100 كيلو يومياً.. وبالتالي فعمارة الذهب وحدها قادرة على حلحلة المشاكل الاقتصادية التي تواجه البلد إذا أقدمت الحكومة على وضع سياسات ناجحة ومُشجعة للعاملين في هذا المجال، وهنالك تجربة عملية حدثت في العام 2011م حيث خرجت الدولة بكل مؤسستها تماماً من بيع وشراء وتصدير الذهب، وتركته كاملاً للقطاع الخاص، فكانت النتيجة أن كميَّة ما صدَّره السودان آنذاك فاق الإنتاج المحلي، حيث كان ذهب دول الجوار مثل تشاد، أفريقيا الوسطى والنيجر؛ يدخل عمارة الذهب بالخرطوم ويُصدَّر كمُنتج سوداني، وشدَّد القدَّال على أن ذلك لم يحدث إلا نتيجة للسياسة التشجيعية التي انتهجتها الدولة حين ذاك.

ويؤكد الأمين العام لشعبة مصدري الذهب أنَّ هذه العمارة ليس هنالك ما يمنعها أن تكون مثل أسواق الذهب بدُبَيْ وتركيا وغيرهما من الأسواق الراقية والمنظَّمة إذا اهتمت الحكومة بأمرها وسعت لتطويرها معمارياً، ومن ثمَّ دعمتها برسم سياسة واضحة تصب في مصلحة بناء اقتصاد قوي لأن كل مقومات ذلك متوفرة تماماً.

تعدين أهلي
رئيس شعبة مصدري الذهب، عبد المنعم الصديق، أكَّد لـ (السوداني) أنه وعلى الرغم من ظهور عدَّة أسواق بمناطق الإنتاج المنتشرة بربوع وسهول البلاد، لكنها لم تُؤثِّر على الوارد إلى عمارة الذهب بالخرطوم لأنَّ معظم المنتجين هناك يفضِّلون بيع إنتاجهم بهذه العمارة، واتفق مع من سبقه بالحديث حين قال: إنَّ الوارد لعمارة الذهب يومياً من هذا المعدن يصل إلى حوالي (100) كيلو جرام يومياً، وأنَّ (90%) منه يأتي من العاملين في التعدين الأهلي، ويعتبر هذا المجمع هو المركز الرئيسي لبيع وشراء الذهب بالسودان.

وفي تعليقه على حصر عملية تصدير الذهب لبنك السودان فقط، قال الصديق إنها خطوة غير موفقة لأن هذا القرار صدر قبل ذلك عدَّة مرات، وأثبت فشله الذريع، مُستدلاً بأن الفترة من 2008م إلى 2011م كان التصدير فيها محصوراً على القطاع الخاص، فتمكَّن من تصدير (90%) من الإنتاج، ومن ثم قرَّرت الحكومة أن يقوم بمهمة التصدير بنك السودان ففشل حتى في تصدير (25%) من المُنتج، وهكذا انفتح الباب على مصراعيه للتهريب. وشدَّد رئيس شعبة مصدري الذهب، على أن المُصدِّرين لا ولن يتضرَّروا أبداً لأنهم سيبيعون لبنك السودان المركزي بسعر البورصة العالمية في حساب (441) جنيهاً للدولار؛ لكن من المؤكد أن السودان (الوطن) هو الذي سيتضرَّر من هذه الخطوة، لأنَّ سعر البورصة يصعد وينخفض عدة مرات خلال اليوم الواحد، وتجَّار الذهب بما اكتسبوه من خبرات يجيدون التعامل تماماً مع هذه التقلّبات.

رؤية اقتصادية
ورداً على الحديث المُتفق عليه من جانب رئيس شعبة مُصدِّري الذهب، والأمين العام للشعبة، وشيخ الصاغة بأن سياسات الدولة المتغلِّبة في ما يلي إنتاج وتصدير الذهب تمثِّل عائقاً لعمل أكبر سوق للمعدن وهو (عمارة الذهب)، يقول الخبير المصرفي “أحمد حمور” لـ(السوداني): بغضِّ النظر عن السياسات السابقة كلها، إلا أنَّ ما تم إعلانه مؤخراً من سعرٍ مُجزٍ للدولار وهو (441) جنيهاً يُعتبر أكبر حافز لتجار الذهب لكيما يتعاملوا مع البنك المركزي، وأضاف: لا أرى مُبرراً بعد ذلك لتهريب الذهب، أما كون سعر البورصة يتأرجح بين الفينة والأخرى وقد يتضرَّر اقتصاد البلد من ذلك، فهذا شأنٌ خاص بمؤسسات الدولة، وهنالك موظفون هذا (شُغلهم) وهُم أيضاً يدركون (مصلحة البلد)؛ حتى لا يكون التجار والمُصدِّرون (ملكيين أكثر من الملك)..!!

ويمضي “حمور” بقوله إن العجز بين فاتورتي الاستيراد وحصائل الصادر يبلغ (4) مليارات دولار، فإذا استطاعت الدولة أن تحدَّ من التهريب المُسرّب من عمارة الذهب فقط؛ يمكنها أن توفّر في العام الواحد حوالي (7) مليارات دولار، مما يجعل هنالك فائضاً يفوق الـ(3) مليارات دولار من الذهب فقط.

بين الشُرطة وعمارة الذهب
وبسؤالنا له عن محاصرة الشرطة للعمارة بجحة المضاربة في الدولار، وصف الأمين العام لشعبة مصدري الذهب “القدَّال”، ذلك الاتهام بـ(المُغرض)، وقال: هذه شائعات يطلقها أصحاب النفوس المريضة بدليل أنه عندما تم تفتيش العمارة لم يتم العثور على شيء، فتجار الذهب لا يُبدِّلون هذا النشاط بالاتجار في العُملة أو أي شيء آخر.. أما عن وجود السلاح فما وجدته قوات الشرطة من سلاح بالعمارة هو في حدود ما يدافع به أصحاب المحال التجارية عن أنفسهم، وهو سلاح تم استخراجه وفقاً لضوابط قانونية أقرَّت بها جهات الاختصاص، وعلى ضوء ذلك (صدَّقته) لهم، أما الاتهام بأن العمارة وكراً لتجارة السلاح فهذا افتراء وكذب لا يقبله المنطق والعقل.

وفي الاتجاه ذاته مضى رئيس شعبة مصدري الذهب، عبد المنعم الصديق، نافياً الاتهامات المُوجَّهة لهم بأن هنالك من يضاربون بالدولار، مؤكداً أن تجار الذهب لا يبدِّلون هذا المعدن بـ(أولادهم)، ناهيك أن يبدِّلونه بالدولار أو غيره، وشدَّد على أن أي تاجر هنا إذا باع مُجرَّد (غويشة) يسرع لاستبدال قيمتها بقطعة ذهب أخرى (خام).

وحول دور الأوقاف الإسلامية (مالك العمارة) يؤكد عبد المولى القدال أن دورها سلبي تجاه عمارة الذهب، بحيث إنها لم تجد الاهتمام اللازم، رغم أنها بناية إستراتيجية، وقال القدَّال إنَّ الدليل على إهمال الأوقاف للعمارة أنها وصلت مرحلة جعلت مدير عام الشرطة ووزير الداخلية (السابق)، الفريق عز الدين الشيخ، يهدد بإغلاقها إذا لم تتم صيانتها بشكل لائق.

لُغة الأرقام
أخيراً نخلُصُ إلى أن السودان لو انتفع من صادر هذا المعدن النفيس فليس هنالك ما يجعله يدخل إلى قائمة مصاف النمور الآسيوية. لأنه وفقاً للإحصاءات، هنالك (177) شركة امتياز أجنبية، و(182) شركة للتعدين الأصغر، و(48) شركة لمعالجة المخلفات (الكرتة) من عروق الذهب. ومن المُفارقات العجيبة أن بعض الإحصائيات تجعل السودان بين ذيلية الدول التي لا يزيد إنتاجها منه عن (4 – 5) أطنان.. في حين أن التقارير السودانية الأخيرة تتحدث عن أرقام تتراوح بين (80 – 120) طناً في العام، ووفقاً لهذه التقديرات فإن السودان يشترك في المركز الأول (أفريقياً)، ويجلس منفرداً في المرتبة الأولى على مستوى الشرق الأوسط، بل يُزاحم في العشر الأوائل على مستوى العالم.

الخرطوم: ياسـر الكُردي
صحيفة السوداني