“دولتنا أكبر من دولتكم”.. هكذا أهانت الخرائط كرامة الشعوب
“ما هذا بحق الجحيم؟”.. هكذا تساءلت كلاوديا كريج، مسؤولة طاقم عمل البيت الأبيض لشؤون الصحافة، بتعجب شديد، حينما رأت للمرة الأولى في حياتها خريطة للعالم لم تكن كتلك التي حفظتها طوال سنين تعليمها. في هذا المشهد الشهير من الحلقة السادسة عشرة بالجزء الثاني من المسلسل الحاصل على الجوائز “الجناح الغربي” (The West Wing) يقف د. جون ليشرح لصديقتنا أن الخريطة التي يتعلمها الطلبة في المدارس الأميركية، والتي يراها المواطنون على الحوائط في المصالح الحكومية، هي عبارة عن كذبة كبيرة تم الترويج لها على مدى خمسمئة سنة، أميركا ليست بهذا الحجم، والأسوأ من ذلك أنها ليست حتّى في هذا المكان!!
وعلى الرغم من أن هذا هو سيناريو أحد المسلسلات الشهيرة، فإن تلك الفكرة عن الخرائط حقيقية بالضبط كما أن دونالد ترامب، رئيس دولة كانت تسمى يوما ما “رائدة العالم الحر”، حقيقي. دعنا مثلا نتأمل ذلك القرار الذي اتخذته إدارة ولاية بوسطن الأميركية في مارس/آذار من العام الماضي بتغيير الخرائط(1) المستخدمة في مناهج الجغرافيا بكل السنوات الدراسية في المدارس العامة، وعددها 125 مدرسة، بها 57 ألف طالب، خمسة أسداس هذا العدد من أصل أفريقي. تضمن هذا التغيير الانتقال من “إسقاط ميركاتور” إلى “إسقاط جال – بيترز”، لأن الخرائط المعتمدة على إسقاط ميركاتور كانت بدرجة ما تحمل تشويها عنصريا استعماريا للواقع عفا عليه الزمن، في اليوم الأول من الدراسة مع الخرائط الجديدة فتح الطلبة أفواههم باندهاش، هل هذا هو العالم الذي نعيش فيه؟ مستحيل!!
الآن، لنقطّع ثمرة برتقال
حسنا، لنتوقف هنا قليلا، لفهم جوانب تلك الحكاية المثيرة للاهتمام دعنا نبدأ من شكل الأرض، فهي -إلى حد ما- كرة، كتلك الكرة الأرضية التي تراها في محلات الهدايا، لكن الأخيرة أكثر انتظاما بالطبع. هذا النموذج الكروي مثالي في الحقيقة لكنه لا يستطيع أن يخدمنا طول الوقت، في أثناء السفر بالسفن مثلا، أو أثناء دراسة الجغرافيا، سنود أن تكون هناك خريطة ورقية مرسومة أمامنا يمكن لنا قياس المسافات عليها بالمسطرة، أو سنود كتابة توضيحات بجوارها في الكتب، أو سنود نقل تلك الخرائط من بلد إلى بلد من أجل دراستها، بالطبع لن تسافر من مكان إلى مكان بكرة خشبية ضخمة، هنا سوف نطلب من كارل فريدرك جاوس، الرياضي الألماني الأشهر، أن يحل لنا تلك المسألة: كيف يمكن لنا أن نحوّل خريطة كروية ثلاثية البعد إلى صورة مسطّحة ثنائية البعد؟
ببساطة: لا يمكن، رياضيًّا لا يمكن لنا بدقة كاملة أن ننقل صورة قارات الأرض من الكرة إلى الخرائط المستوية، لفهم ذلك يمكن أن تحاول تقطيع ثمرة برتقال ونزع غلافها الخارجي ثم محاولة صنع مستوى مسطح منه، حينما تقطع كرة أرضية بلاستيكية من أحد الجوانب ثم تحاول فردها كي تصنع منها خريطة مستوية فإنك لن تستطيع فعل ذلك بأي طريقة ممكنة، دائما وحتما سيكون هناك خطأ ما. من تلك النقطة ينشأ علم الخرائط(2) (Cartography)، حيث عكف الجغرافيون قبل مئات الأعوام على محاولة تقليص نسبة الخطأ قدر الإمكان في أثناء رسم الخرائط، الطرق التي يحاول بها الجغرافيون أن يُسقطوا ما على الكرة إلى اللوحات المستوية تسمى “الإسقاطات”(3) (Projections).
لكن المشكلة الدائمة هي أنه حينما تحاول ضبط أي من المعايير الأساسية للخرائط (وهي المساحة، والشكل، والاتجاه، والمسافة بين نقطتين) يؤثر ذلك على المعايير الأخرى، فمثلا في أثناء محاولاتك ضبط الاتجاهات في الخرائط، بحيث تساعدك على السفر في البحر، تهتز المساحات فتصبح أكبر من الطبيعي في بعض الأماكن، وفي أثناء محاولتك ضبط المساحات الخاصة بالقارات أو الدول يؤثر ذلك على الاتجاهات فلا يمكن أن تستخدم خريطة كتلك بسهولة في الملاحة، تلك المعايير الأربعة تتغير بالنسبة لبعضها البعض، إذا حاولت أن تجعل أحدها أكثر دقة فالآخر سيكون أقل دقة، وهكذا.
الخرائط، كلها، كاذبة إذن. هي فقط محاولات للاقتراب من الحقيقة الموضوعية الكاملة، تلك التي لن نصل لها أبدا. لأغراض الملاحة مثلا كان جيرارديس ميركاتور، رسام خرائط الفلمنكي الشهير، حول منتصف القرن السادس عشر، قد ابتكر إسقاطا(4) جديدا يهدف إلى المساعدة في الملاحة على طول خط التجارة الاستعمارية، والفكرة البسيطة كانت أن يقوم ميركاتور بتكبير مساحة المربعات الشمالية والجنوبية المكونة من تقاطع خطوط الطول ودوائر العرض، بمعنى أن نقوم بـ “مطّها” قليلا لتناسب الانتقال إلى مستوى مسطح.
الخرائط الكاذبة
كانت الفكرة الجديدة مناسبة للغاية، بل وثورية بالنسبة لمعايير تلك الفترة، لأن الهدف هو بالأساس رسم خطوط ملاحية يمكن للسفن اتخاذها كي تصل إلى أماكن محددة، ونجحت الخريطة في حفظ الاتجاه وزوايا التحرك بدقة شديدة، بحيث تكون زاوية مقدارها 50 درجة على الخريطة هي تقريبا الزاوية نفسها على الأرض، حتّى إن جوجل للخرائط (Google Maps) تستخدم هذا الإسقاط للسبب نفسه، وهو حفظ الاتجاهات وزوايا التحرك.
لكن إسقاط ميركاتور في المقابل لم يكن دقيقا أبدا في حفظ المساحات، ولا مواضع الدول، تأمل قليلا تلك الخريطة المرفقة للعالم، كشخص عربي قد تبدو لك غير مألوفة، وذلك لأن كتب الجغرافيا في المدارس العربية لا تستخدم هذا الإسقاط لرسم الخرائط للطلبة. في البداية قد تبدأ بالتساؤل عن جرينلاند، تلك الجزيرة الضخمة المغطاة بالثلج الموجودة بالأعلى إلى اليسار قليلا، لِمَ تظهر بهذا الحجم الضخم للغاية بحيث تماثل حجم قارة أفريقيا تقريبا؟
في الحقيقة فإن مساحة جرينلاند أصغر(5) 14 مرة من مساحة قارة أفريقيا، كذلك فإن قارة أفريقيا أكبر بفارق واضح من قارة أميركا الشمالية بينما تُظهر الخريطة العكس تماما، أضف إلى ذلك أن المنطقة التي تحوي روسيا تظهر أكبر من قارة أفريقيا، بينما في الواقع تساوي روسيا نصف مساحة أفريقيا فقط، كذلك تظهر القارة القطبية الجنوبية بمساحة شاسعة بينما في الأساس هي أصغر -مثلا- من أميركا الجنوبية، أمّا أوروبا فمساحتها لا تكبر أوقيانواسيا (أستراليا ومحيطها) بفارق واضح، بينما تُظهر الخريطة أوروبا على مساحة ضخمة. أضف إلى ذلك أن هذا النظام الجغرافي يضع أوروبا قريبة من منتصف العالم تقريبا، السبب في ذلك هو أن تلك المربعات بالأعلى والتي تم تكبيرها في الخريطة تسببت في تكبير المساحات المرسومة فيها.
لهذا السبب جادل(6) أرنو بيترز (Arno Peters)، رسّام الخرائط الألماني، في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، بأن إسقاط “ميركاتور”، على الرغم من نيّاته الحسنة وفائدته الجمة للملاحة، يمكن أن يؤدي إلى درجة من التحيز في نظرتنا إلى العالم، حيث يظهر هذا الإسقاط البلدان الواقعة في خطوط العرض الشمالية على أنها أكبر بكثير من تلك القريبة من خط الاستواء، وبالتالي أكثر أهمية أو قوة منها، وهنا قدم بيترز بديلا يحفظ المساحات بدقة لكنه رغم ذلك يشوه معايير أخرى كالشكل والاتجاه، وهو ما نعرفه بإسقاط “جال-بيترز”، وكان جيمس جال قد سبق بيترز إليه بقرن كامل، لكن سُمّي الإسقاط نسبة لكليهما لأن الأخير هو من أثار تلك القضية. الآن تأمل معي تلك الخريطة القادمة، إنها تلك التي عرضها د. جون على كلاوديا في المشهد الذي تحدثنا عنه قبل قليل.
هل تلاحظ الفارق؟(7،8) هذه الخريطة هي شيء مختلف تماما عن السابقة، تعطي أحجاما حقيقية للقارات، هنا تظهر أفريقيا ضخمة بالفعل مقارنة بأوروبا أو أميركا الشمالية أو حتّى آسيا أكبر قارات العالم، كذلك يمكن لك تأمل موضع دولة كفرنسا مثلا أو ألمانيا، حيث تبدوان في مكان شمالي أكثر مما كان إسقاط ميركاتور يعرضه، تسيطر قارة أفريقيا على المشهد في إسقاط “جال-بيترز” بوضوح، بينما تظهر أنتارتيكا، القارة القطبية الجنوبية، بحجم مناسب. بالنسبة إلى إسقاطات المساحة المتساوية، والتي تضم إسقاط “بيترز-جال”، قد تبدو أشكال البلدان مضغوطة أو ممدودة مقارنة بما تبدو عليه على الكرة الأرضية، لكن مساحة أي منطقة على الخريطة تكون متناسبة مع مساحتها على الأرض.
العالم في عيون الاستعمار
هناك الكثير من إسقاطات الخرائط، كل منها يستخدم تقنية محددة تفضل بعض المعايير الأربعة على حساب الأخرى، لكن على مدى 500 سنة فائتة، كان إسقاط ميركاتور هو الأكثر شهرة وانتشارا، في الحقيقة لا يوجد سبب واحد فقط يمكنه أن يشرح لِمَ يتم استخدامه لأغراض تعليمية(9)، بمعنى أوضح: يمكن أن تستخدم إسقاط ميركاتور في الملاحة، لكن بالتأكيد لن يحتاج الطلبة في فصول الجغرافيا إلى معرفة دقيقة بالاتجاهات بقدر حاجتهم إلى رؤية العالم بصورته الحقيقية.
أدى ذلك إلى ظهور اصطلاح يسمى “أمّية الخرائط”(10) (Immapancy)، ويعني أن معرفتنا القليلة بالخرائط تتسبب في أن نفهم العالم بشكل خاطئ في كل مرة نتعرض فيها لأحد الإسقاطات، وهي كثيرة، لكن أكثرها شهرة وانتشارا هو ذلك الذي يشوّه قارة أفريقيا فيجعلها صغيرة، و”صغيرة” قد تعني “غير مهمة” أو “غير قوية”. تجادل(11) ماريان فرانكل، أستاذة العلوم السياسية من جامعة لندن، أن للأمر علاقة واضحة بتصور العالم الغربي عن نفسه، وعن بقية الكوكب، في أثناء الحقبة الاستعمارية. إنه تصور يقول إن بلادهم من الضخامة بحيث يمكن القول إن العالم يخصّهم، ومن حقهم -لذلك- الاستمرار في السيطرة عليه، بالتالي قد يكون إسقاط ميركاتور قد حفّز الشعور بالتفوق الاستعماري في تلك الدول. لكن، هل يقف الأمر عند هذا الحد؟
لا، في الحقيقة، إن الأمر ببساطة أن يكون الشمال بالأعلى في الخرائط التي نعرفها ونستخدمها بشكل يومي سواء عبر خرائط جوجل أو أثناء استذكارنا لدروس الجغرافيا هو -على ما يبديه من سذاجة- محل جدل واهتمام، هل هناك سبب واحد يجعل من ذلك حالة طبيعية(12)؟ بمعنى أوضح، حينما تنظر إلى الأرض من الفضاء فإنه ليس هناك ما يمكن أن يجعل الشمال بالأعلى والجنوب بالأسفل سوى نظرتك الشخصية فقط، بالنسبة لكائن فضائي قادم من كوكب يقع على مسافة 500 سنة ضوئية، وبالنسبة للكون نفسه، لا يوجد ما يسمى أعلى أو أسفل، هل كنت تعرف -على سبيل المثال- أن خريطة العالم بصورتها الحالية (الشمال بالأعلى والجنوب بالأسفل) لم تكن دائما هي الأكثر انتشارا؟
دعنا مثلا نتأمل الخرائط المسيحية(13)، في القرون الوسطى، حيث كان شرق الخريطة هو ما يقع في الأعلى، ذلك لأنه كان يُعتقد أن حديقة عدن، والعالم كله، قد انبثقت من ناحية الشرق. بينما كانت الخرائط الإسلامية، وفي الفترة نفسها تقريبا، تتخذ نظاما معكوسا، حيث كان الجنوب هو ما يقع بالأعلى، تأمل قليلا تلك الخريطة المرفقة، إنها واحدة من أشهر الخرائط في تاريخ الحضارة الإسلامية، وفي العالم كله، رسمها محمد الإدريسي، الجغرافي العربي الذي وُلد في سبتة بالمغرب، الخريطة موجهة بحيث يكون الجنوب في الأعلى(14)، كما كان شائعا في ذلك الوقت. بالتالي فإن حقيقة أن خرائطنا تضع الشمال في الأعلى هي مجرد اتفاق، يتصور البعض أن سببه هو الشهرة العارمة التي لقيها إسقاط ميركاتور في اللحظة التي ظهر فيها.
لكن، هل يمكن أن يؤثر ذلك في الكيفية التي ندرك بها العالم؟ ربما، نستخدم -نحن البشر- الاستعارات لمساعدتنا على هضم المفاهيم المجردة لحالاتنا الإدراكية، فمثلا نستخدم استعارات الأماكن لتحديد الشعور، في اللغة الإنجليزية مثلا يمكن أن تتحدث عن شعور مرتفع وشعور منخفض كإشارة إلى الحالة المزاجية الخاصة بك، يمكن لنا كذلك في اللغة العربية أن نشير إلى حالاتنا المزاجية بألفاظ كـ “فوق” و”تحت”. لهذا السبب تشير بعض الأعمال البحثية (15،16،17) إلى أن تحديد الشمال والجنوب على الخرائط على أنها “أعلى” و”أسفل”، على أساس أن ذلك هو “الطبيعي”، قد يكون له عواقب نفسية، حيث قد يمتلك الناس تصورات لا واعية أن يرتبط الشمال بالأشخاص الأكثر ثراء، والعقارات الأكثر تكلفة وارتفاعا، بينما يرتبط الجنوب بالأشخاص الأكثر فقرا، والأسعار الأرخص، إلخ.
البروباغاندا الخرائطية!
في تلك النقطة ربما يسأل البعض عن جدوى ذلك كله، بمعنى آخر: هل كان تاريخ العالم سيتغير إن كان إسقاط “جال-بيترز” هو الأكثر انتشارا خلال القرون الخمسة السابقة؟ هل كان سيتغير إن كانت الخرائط مقلوبة؟ من السخف طبعا أن نجزم بذلك، أو حتّى أن نتحدث بدرجات واسعة من التأكيد في إمكانية أن يكون سببا رئيسيا قويا، لكن لا يمكن لنا بسهولة إنكار دور البروباغاندا الخرائطية(18،19) (Cartographic propaganda) في تاريخ العالم. لطالما عرف رجال السياسة قدرات الخرائط على إقناع الناس بمعلومات مغلوطة من أجل تحقيق أغراض سياسية، وذلك لأن الخرائط تُقدَّم دائما للجمهور كنموذج مصغر للواقع، ومن النادر أن يشار إلى الخريطة على أنها نموذج مشوّه، ما إن ترى خريطة ما حتّى تتصور أنك أمام معادلة رياضية دقيقة تتحدث بصدق موضوعي منزه عن الخطأ البشري، الخريطة ببساطة هي معادل للصدق، في أذهان الناس.
على سبيل المثال كان إدوارد كوين(20)، في أطلسه التاريخي الشهير والذي يرسم تطور العالم حتّى العام 1828، قد كتب في مقدمته أنه سوف يستخدم اللون الزيتوني لتظليل المساحات التي تشير إلى مناطق بربرية وغير متحضرة، غيّر كوين في الألوان التي تتخذها الدول مع الزمن إلا تلك المناطق، كي يتصور الطالب أن البربرية هي صفة أساسية لها، لن تتغير أبدا إلا حينما تجيء الحضارة الأوروبية (الاستعمار طبعا) لتشع نورها على هذا الجهل فتنهيه، هكذا تم استخدام كل شيء في الخرائط، سواء كان الحجم، أو الرموز، أو الألوان، لخدمة الأغراض الاستعمارية وتمرير معتقداتها بشكل شرعي.
وبوصولنا إلى القرن التاسع عشر كانت البروباغاندا الخرائطية قد استُخدمت على نطاق واسع، واتخذت أشكالا عدة تشبه ما نألفه الآن تحت اسم “إنفوجرافيك” تكون الخريطة جزءا منه، أو كاريكاتير ساخر تكون الخريطة كذلك جزءا منه، في العام 1896 مثلا روّجت روسيا(21) لخريطة تُظهرها على أنها جنة خضراء على الأرض، تعيش في رفاهية شديدة مع خطوط سكك حديد ممتدة في كل جوانبها، وإشارة إلى وجود موارد متنوعة وكثيرة، وتظهر البلاد في الخريطة بحالة وحدة وطنية قوية، تم توزيع تلك الخرائط لتدريسها للطلاب في المدارس البولندية، في الوقت نفسه الذي ضربت فيه المجاعات الأراضي الروسية ولقي 500 ألف شخص مصرعهم خلالها!
في أثناء المجاعة التي لقي 500 ألف شخص مصرعهم خلالها، كانت روسيا توزّع خرائط يوتوبية في مدارس بولندا (مواقع التواصل)
في أثناء المجاعة التي لقي 500 ألف شخص مصرعهم خلالها، كانت روسيا توزّع خرائط يوتوبية في مدارس بولندا (مواقع التواصل)
وبحلول الحرب العالمية الثانية استُخدمت الخرائط من قِبل جهاز البروباغاندا النازي بدقة وحرفية شديدة، فمثلا أصدر نظام أدولف هتلر، وروّج، لخرائط تلون المناطق المجاورة لألمانيا والناطقة باللغة الألمانية باللون نفسه مع إزالة الحدود بينها لتبيّن أن كل من ينطق بالألمانية يقع في نطاق الرايخ، أما في الحرب الباردة(22) فكان الاتحاد السوفييتي قد روّج بشكل واسع لخرائط عالم بإسقاطات تظهره بشكل أكبر في الحجم بفارق واضح من الولايات المتحدة الأميركية، مع استخدام ألوان حمراء للإشارة إليه، في دعوة مباشرة للذعر.
تفنن الاستعمار في رسم الخرائط بصور قريبة للإنفوجرافيك المعاصر، في تلك الصورة يفرض سيطرته على قارة أفريقيا (مواقع التواصل)
تفنن الاستعمار في رسم الخرائط بصور قريبة للإنفوجرافيك المعاصر، في تلك الصورة يفرض سيطرته على قارة أفريقيا (مواقع التواصل)
في الحقيقة يمكن أن نفرد كتابا كاملا للحديث عن البروباغاندا الخرائطية وتطورها على مدى التاريخ ولا ننتهي، ويمكن لك أن تتأمل موسوعة ممتعة ومجانية أصدرتها جامعة كورنل، تجد رابطها بالمصادر(23)، مكونة من 800 خريطة للبروباغاندا، تهدف في المقام الأول إلى التأثير على الآراء أو المعتقدات الخاصة بالمواطنين بدلا من توصيل معلومات جغرافية موضوعية، مقسمة إلى فئات تتعلق باستخدام كل منها، سواء لأغراض استعمارية، دينية، عرقية، حربية، إلخ.
يقول الجغرافي الشهير، وصاحب مجموعة من أهم الأعمال في تحليل تاريخ الخرائط واستخدامها لأغراض متعددة، مارك مونمونير(24) (Mark Monmonier) إنه “لنقل صورة عالم معقد ثلاثي الأبعاد إلى ورقة مسطحة أو شاشة فيديو، يجب أن تشوه الخريطة الواقع، لا مفر(25) من التناقض الخرائطي: لتقديم صورة مفيدة وصادقة، يجب أن تعطينا الخريطة الدقيقة كذبة بيضاء”، لكن هل هي بيضاء حقا في كل مرة؟ لا يحاول هذا التقرير أن يعطيك إشارة خضراء للتشكيك المبالغ في أغراض الخرائط التي، ربما، تستخدمها بشكل دوري، ولا يحاول كذلك أن يبرر لفلسفات تصف نفسها دائما بلفظة “ما بعد”، أو يعطي دفعة للكسل القائم على فكرة تقول أن كل مشكلاتنا سببها هو مؤامرة غربية، لكنه فقط محاولة للحث على التأمل، إعادة النظر فيما يمكن أن تمثله أكثر الأشياء إقناعا وحيادية في هذا العالم، وما يمكن أن تمرّره لإدراكنا دون أن ندري. افتح كتابك الآن وتأمل أقرب الخرائط إليك، هل تلاحظ اختلافا؟!
المصدر : الجزيرة