عبد الرحمن عمسيب: على نار هادئة
في بداية الألفية الثالثة “مواكب ” من السيارات من جميع مناطق صربيا قررت أنها “ستزحف ” نحو العاصمة بلغراد لتوسيع رقعة الأحتجاج ضد سلوبدان ميلوزوفيتش _ الرئيس الصربي ، كانت هذه الفعالية أستجابة لدعوات من الحركة مجهولة القيادة “أوتوبور ” ، لم تكن فكرة موكب عطبرة او موكب ولايات دارفور سوى نسخة مكررة من أحد سناريوهات حركة أتوبور ، أما الجانب الأحتفالي في الأحتجاج فأن مشهد مغنى الراب الذي صعد الي المسرح ليلهب المسرح في ساحة الأستقلال في أوكرانيا تكرر بالكربون في ميدان الأعتصام حين صعد مغنى الراب الفوضوي ليغني “جنجويد رباطة ” ..
كل ما كان مثيراً وغريباً في ساحة الأعتصام لم يكن سوى نسخة مستوردة و مطبقة بالكربون من نماذج مقترحة من ما يعرف بمهندسي الثورات و مقرهم الرئيسي بصربيا ، مكتب حركة أوتوبور الممول بالكامل من أمريكا و بعض الدول الأوربية ، لذلك و لذلك فقط لم يكن غريباً أن يلج من بوابة الأعتصام كل سفراء هذه الدول الأوربية لأبداء الدعم و أرسال رسائل واضحة الي الجماهير بأننا ندعم هذا المجهود ، لقد منحت زيارات السفراء زخماً رهيباً لهذا الأحتجاج ..
الهاء المحتجين بالغناء و الرقص و الأجواء الأحتفالية هي أحدي الفلسفات التي ناقشتها أوتوبور في دورياتها ، بوبوفيتش منسق الحركة قال أنه ينظر الي أفراد هذه الحركات كجنود ، و كما يحرص أفراد الجيش علي شغل أذهان أفراده و أنهاكهم بالمهام ، فكان لابد من الهاء الجموع بالمظاهر الاحتفالية والمهام ، عندنا في السودان يقول لك العساكر أن النوم “بجيب التفاكير ” .. و كان الامر كذلك في هذا الأحتجاج .. كان لابد من شغل الناس حتي يحافظوا علي ثباتهم و تلاحمهم ، الأنهماك في نشاط ما كان هو أكبر مخدر للخوف .. كل هذه أستراتيجيات تلاعب نفسي مدروسة و مجربة و ليست شيئاً جديداً ..
(أعترافات لاحقة بعد كتابة المقال من ناشط معروف بأن المخدرات كانت توزع على اليافعين بصورة يومية )
هنالك أستراتيجية أخري تتعامل بها هذه الجماعات ، الا و هي أستراتيجية أنهاك القوات الأمنية بالأحتجاجات حتى توسع دوائر القمع و تدخل فئات كان لها موقف سلبي من الأحتجاج في دوائر الفعل ، بمعني أنها تحرص علي أن يكون القمع أهوجاً غير مضبوط و يوجه لجميع من يكون في مكان الأحتجاج حتي لو لم يكن متورطاً .. و هو ما نجحت هذه المجموعات في أنفاذه في ديسمبر ..
(كان هنالك حرص على نقل الأحتجاجات الي أماكن التجمع الكبيرة للمواطنين غير المنخرطين في السياسة و أفتعال العنف مع الشرطة حتى تقوم بضرب الجميع بالغاز و الهروات و تثير العداوة بين الشرطة و المواطنين المحايدين ) ..
و منطق هذا الفعل أن هذه الجهود الأستفزازية تفقد النظام القائم التعاطف و تحوله كرصيد في خزينة المحتجين و تمهد للخطوة القادمة ، تصعيد عنيف فيلجأ النظام الي القتل ، ثم تصوير هذه الأصابات و الأعتقالات و الأقتحام و القنص .. الخ و الترويج له في الوسائط ليمكن حالة الغضب و يأججها بما يساهم أكثر في توسيع رقعة الاحتجاج ..
كانت كل هذه الادوات موجودة في 2011 ، كنا جزءاً من تلك الأحتجاجات التي أنطلقت في ميدان جاكسون في يناير ، كان واضحاً أن الناس متعاطفون مع الشرطة ، بل أن الناس كانوا يساعدون الشرطة في القبض علي أصدقائنا في تلك الأحتجاجات ، وقتها عرف الراصد الأجنبي أن العصر الأقتصادي ضروري لأفقاد النظام تعاطف الناس معه ، و تحين فرصة الضغط الأقتصادي في سبتمبر 2013 و لكن الأجهزة الأمنية كانت قادرة علي التعامل مع الأحتجاج الواسع ، وقتها عرف الراصد أنه بحاجة الي شخصيات من داخل الأجهزة الأمنية ، شخصيات قادرة علي أرخاء القبضة الامنية ، و أساءة أستخدام العنف لأستفزاز الناس و توسيع رقع الأحتجاج ، و من غير ثعلب الأنقاذ ..
بدأ الخنق الأقتصادي و أقيمت أول بروفة عينية و مباشرة لأحداث ديسمبر في يناير 2018 و في منتصف الخرطوم وفي قلب شارع الجمهورية .. و لم تكن الخرطوم تعرف ما ينتظرها بعد 11 شهراً ، لم تعرف أن الدور عليها قد حان ..
عبد الرحمن عمسيب