ثقافة وفنون

مهن قديمة تصارع التكنولوجيا للحفاظ على “عبق التراث” السوداني

تحمل التكنولوجيا كل يوم تطوراً جديداً يسهل نمط الحياة اليومية، لكنها فرضت على بعض المهن أن تكون جزءاً من التاريخ الإنساني، في وقت كان لها بريق وأهمية في حياة البشرية، فمهنة “الساعاتي” على سبيل المثال، كانت من المهن التي لا أحد يستغني عنها، وكانت تجتمع حوله كل فئات وشرائح المجتمع طالبين خدماته، فضلاً عن مهن أخرى كان أفرادها يقومون بمهمات إبداعية، لكن سرعان ما اختفت وقل الطلب عليها في عصر العولمة.

عشق قديم

أحمد الطيب الأمين رجل في العقد السابع يجلس بحقيبته الصغيرة السوداء وتتربع أمامه منضدة تتوزع فيها مجموعة من الساعات القديمة في إحدى زوايا “السوق العربي” بالعاصمة الخرطوم، بدأ حديثه بالقول “لم تعد مهنة الساعاتي كالسابق بعد هيمنة أجهزة الهواتف المحمولة على كل شيء، لكن هناك بعض الأشخاص يحتفظون بالساعات القديمة ويحرصون على صيانتها، على رغم أن معظم الشباب لا يحفلون بالساعات الأصلية ويعتمدون على هواتفهم المحمولة لمعرفة التوقيت الزمني”.

أضاف “معروف أن مهنة الساعاتي تمزج ما بين الدقة والموهبة وعرفها السودانيون منذ القدم، وظلت من المهن العريقة يتوارثها الأبناء عن الآباء والأجداد”.

وعن قصته مع هذه المهنة، قال “لم أعرف طريقي إلى المدرسة عندما أخذني والدي إلى متجره الكائن في السوق وأجبرني على الجلوس ساعات طوال لمشاهدته وهو يقوم بتصليح عشرات الساعات بمختلف الماركات، بالتالي أصبحت هذه المهنة عشقاً قديماً ظل يربطه بالساعات منذ استيقاظه في ساعات الصباح الباكر على إيقاع دقات ساعة المجلس البلدي في مدينة أم درمان”.

ثقافة جديدة

واستطرد الساعاتي السوداني قائلاً “أم درمان مدينة تحفل بذكريات الماضي، فساعة مجلسها البلدي تشبه ساعة “بيغ بن” الشهيرة في مدينة لندن، ومثلها أخريات توزعت بين أم درمان والخرطوم والخرطوم بحري، تلك الساعات التي جلبها الإنجليز إبان الحكم الثنائي، تحمل آثار تلك الأيام، لكن الآن فقد أصبحت المهنة على مشارف الخطر والانقراض بعد ظهور الساعات الصينية رخيصة الثمن، وعلى رغم قلة جودتها تجد إقبالاً كبيراً من عامة الناس بخاصة الشباب من الجنسين بحثاً عن الأشكال والتصاميم الجميلة، وأيضاً دواعي الموضة، فضلاً عن ظهور الساعات الرقمية وغيرها من الساعات التي غزت أجهزة المحمول”

وواصل “لا شك أن كل هذه العوامل أسهمت في الحد من فرص اقتناء الساعات والاهتمام بصيانتها عند الساعاتي، وأيضاً لم يعد لدى الشباب قدرة على الصبر أو الحرص على تعلم أصول المهنة، حتى أصبح الاعتماد على معايير أخرى لم نكن نعرفها لتأمين الرزق واستخدام الذكاء في البيع والشراء (الفهلوة)، كما أن الماركات القديمة للساعات أضحت مجرد ذكرى جميلة نتعايش معها في هذه الصنعة التي أفنينا فيها زهرة شباب عمرنا”.

وأشار الأمين بحسرة إلى غروب شمس مهنته التي كانت تحمل في الماضي دلالات اجتماعية وثقافية تميز ما بين فئات المجتمع، فالخرطوم منذ منتصف القرن الماضي وحتى قرب نهايته، كانت تحتفي بالمنتجات السويسرية التي كانت تنتج أفخم الساعات التي اقتناها مشاهير السودان، لكن الواقع اليوم يكشف عن ثقافة جديدة بدأت تتشكل، وأصبحت الهواتف المحمولة تقوم بمهمات مختلفة ومن ضمنها إبراز الوقت الزمني.

المخرج الصحافي كمال محمد حامد تتلمذ منذ سبعينيات القرن الماضي على التصميم الصحافي التقليدي، لكن في بداية الألفية الثالثة لم يعد حامد يعمل في مجاله الذي عشقه منذ بواكير شبابه، بعد أن حلت أجهزة الحاسوب مكان ورق “الماكيت”، وحلت برامج التصميم المستحدثة مكان الموهبة البشرية المجردة، ويقول حامد “تجربتي مع الإخراج بدأت منذ صغري عندما كنت أعشق الرسم والتلوين، وكان خالي يعمل (صفيف) يجمع الحروف النحاسية في إحدى المطابع، وكنت أعشق اللحظات التي يصحبني فيها إلى مكان عمله، حيث ضجيج الآلات التي تعمل في صخب وتمزج الحبر في الأوراق وتخرج لنا في آخر المطاف صحيفة يومية”.

ويتحسر حامد على حاله وحال غيره من المخرجين الصحافيين الذين تجاوزهم عصر العولمة ولم يعد بمقدورهم مجاراة الجيل الحالي، لكنه ظل لعقود محتفظاً بأرشيفه الذي ضم سلسلة حوارات وتحقيقات نادرة، بجانب توثيق الحياة السياسية في السودان.

ولفت حامد إلى أن كثيراً من زملاء الماضي يعانون من شظف العيش بعد أن حلت التكنولوجيا الحديثة مكان أعمالهم السابقة، ولم يعد كثير من المهن متاح بخاصة في مجالات الطباعة والتوزيع والأرشفة.

مصارعة الزمن

في أقاصي ضواحي مدينة أم درمان غرب العاصمة الخرطوم، يجلس علي بابكر محمود وأمامه مجموعة من المصنوعات الفخارية بعضها يستخدم لحفظ الماء وتعرف محلياً بـ “الزير” وهو إناء يصنع من الطين لحفظ الماء، وأخرى لأدوات الزينة والبخور.

وبحسب محمود، فإن علاقته بهذه المهنة تعود لستينيات القرن الماضي، إذ ورثها من والده وظل يمارسها طيلة تلك السنوات، لكن الآن الحال تغيرت نظراً لضعف الإقبال على شراء المنتجات الطينية بعد انتشار الأدوات البلاستيكية في سوق الأواني المنزلية، ما جعل العاملين في هذا المجال يصارعون الزمن من أجل بقاء هذه المهنة.

واقع اجتماعي

في حين أشار الباحث الاجتماعي الحسن مضوي إلى غروب شمس عديد من المهن التقليدية في ظل التحديات الاقتصادية والصناعية، إذ أسهمت تغيرات الظروف في خروج عديد من المهن والصناعات التقليدية.

وأوضح أنه على رغم ذلك ظلت بعض المهن تقاوم الفناء باستحداث تغييرات ترتبط بالتراث والثقافة، لكن من المؤكد أن السنوات المقبلة سوف تشهد خروج مهن عدة من الواقع الاجتماعي لأسباب مختلفة، بعضها يرتبط بغياب روادها من الصناع أو بوجود بدائل رخيصة الكلفة وأكثر حداثة.

إشراقة على عبدالله

إندبندنت عربية