الزمن السوداني الجميل… نوستالجيا أم مرض؟
صفحات التواصل تضج بصور العاصمة القديمة حيث النظافة والنظام والوفرة واجتماعيون: "هناك إحساس عام بانهيار كل شيء"
الزمن السوداني الجميل… نوستالجيا أم مرض؟
صفحات التواصل تضج بصور العاصمة القديمة حيث النظافة والنظام والوفرة واجتماعيون: “هناك إحساس عام بانهيار كل شيء”
كان استحضار ذلك الزمن يعني ضمنياً الأسى على الحاضر ومع تدهور الأوضاع بات بمثابة مفارقة مؤلمة (اندبندنت عربية- حسن حامد)
إذا كانت #النوستالجيا هي العاطفة والحنين إلى الماضي، سواء على مستوى #التجارب_الشخصية أو العامة، فإن ما يحاول السودانيون استعادته بفعل الحنين في مجالات الفنون والأدب والثقافة و#كرة_القدم والحياة الاجتماعية أكبر بكثير مما يعيشه الفرد في واقعه.
وتزداد درجة الحنين بتزايد الحرمان أو صعوبة الواقع، فكلما كانت التجربة مريرة، كان الحنين إلى الماضي الملجأ والملاذ.
وفي ظل البحث عن طبيعة الحنين إلى الماضي كمادة للتشويق ووسيلة لجلب الراحة وأحياناً المتعة النفسية، وجد أنه ليس مقتصراً على مجتمع معين، فقد أشارت بعض الدراسات إلى أن أدب وفن عصر النهضة الأوروبي في الفترة بين القرنين الـ14 والـ17 الميلاديين قام على فكرة النوستالجيا بالرجوع إلى الماضي الكلاسيكي والحضارات القديمة في إيطاليا واليونان.
كما ارتبطت حال الحنين إلى الماضي، الذي يعتقد في مثاليته مقارنة بالحاضر، في التاريخ السياسي الحديث باليمين الراديكالي في الغرب، ويظهر عادة في أوقات الترشح للانتخابات بانتقاد المرشحين للوضع الراهن ووعودهم بمستقبل أفضل، وأبرز الأمثلة على ذلك هو شعار الحملة الانتخابية “فلنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى”، الذي نشره دونالد ترمب أثناء حملته الرئاسية عام 2016.
هنالك أيضاً فلاديمير بوتين الذي يستخدم مشاعر الروس وشعارات القومية لإدارة صراعاته الداخلية والخارجية، وكذلك رجب طيب أردوغان الذي ظل ينادي ببعث الدولة العثمانية في تركيا وتمددها في الشرق الأوسط، وغيرهما ممن استثاروا مشاعر جماهيرهم بغرض خدمة مشاريعهم السياسية.
هذه التجربة المتكررة عند كل الشعوب وفي مختلف العصور، ظهرت بشكل لافت في السودان في فترة ما بعد ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018. وعلى رغم أن ظاهرة الحنين إلى الماضي السياسي بعيدة ومتكررة عند انتهاء كل حقبة سياسية سودانية، فإنه بعد ثورة ديسمبر كان النزوع نحو تاريخ الممالك السودانية الموغلة في القدم، إذ انتشرت بفضلها استعارات لفظية وأدبية ومظاهر في الزي من تلك الفترة.
وليس بعيداً مما يحدث في العالم ببروز النوستالجيا السياسية عند اليمين الراديكالي، ما تشترك فيه الأحزاب العقائدية السودانية، وهي الأكثر توهماً بأنها الأصلح للحكم والبقاء، وعادة ما تتهرب من الانتخابات مثلما يحدث الآن، لاعتقادها أنه ليس هنالك من يضاهيها.
مفارقة ذهنية
مع تدهور الأوضاع الاقتصادية فضلاً عن السياسية، تغير شكل العاصمة الخرطوم التي أصبحت الشوارع فيها ممتلئة بالنفايات والحجارة المنقولة لتكوين “تروس” لإغلاق الطرق طيلة أيام المواكب والاحتجاجات. ولم تنجح حكومة الولاية في إزالتها، كما لم يستجب الثوار ولجان المقاومة لمناشدات المواطنين الذين تعطلت أعمالهم بسبب هذا الإغلاق.
كما أثر التدهور العام وموجات النازحين القادمين من مناطق الحروب على سمات المظهر العام للمدينة. وكوسيلة احتجاج على ما وصفه بعض الناس بـ”التشوه البصري”، ونعته المفكر السوداني منصور خالد بأنه “شغب معماري”، امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي بالصور التي تظهر الخرطوم وبقية مدن السودان في غاية النظافة والنظام، على عكس مظهرها الحالي، كما انتشرت صور وفيديوهات قديمة بالأبيض والأسود تعكس جوانب من الحياة، مثل الأسواق والشوارع الرئيسة والوفرة البادية في كل الحاجات.
وكان لافتاً استحضار صور لسياسيين منذ عهد الاستعمار ثم الحكومات الوطنية التالية، حيث كان أهم ما يميز السياسيين وموظفي الخدمة المدنية وطلاب جامعة الخرطوم أناقة ملبسهم على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية، وطريقة تصفيف شعرهم، ثم تظهر الصور من أماكن عدة كالشوارع العريقة بأسمائها التي تحتفظ بها حتى الآن، مثل شارع الجمهورية وشارع البرلمان والجامعة وغيرها، وفيها يبدو الاعتناء بالمظهر المعماري والتصميم الأنيق الذي شمل دواوين الحكومة والجامعات ودور السينما والمستشفيات والمطاعم وغيرها.
وما يجدر ذكره أن تلك المباني نفذتها السلطة الاستعمارية التي اتبعت نظاماً صحياً صارماً يتعلق بالنظافة العامة ومراقبة الأسواق وغيرها. أما الشوارع والأسواق الشهيرة مثل السوق الأفرنجي فقد كان لوجود اليونانيين واليهود والأقباط على رأسه بإنشاء شركات عائلية دوراً في انتعاش الاقتصاد السوداني، ولا تزال محلات شهيرة مثل “باتا” وشركات ضخمة مثل “بيطار” وصيدليات قديمة تحتل مكانها في الخرطوم، ويديرها وارثو ملاكها الأصليين.
في البداية كان استحضار ذلك الزمن يعني ضمنياً الأسى على الحاضر، لكن مع تدهور الأوضاع، أصبحت هذه الصور تحدث مفارقة ذهنية ومقارنة بين الحالين.
شعب مهزوم
عن تعلق السودانيين بما يسمى الزمن الجميل، قال الكاتب الصحافي فائز السليك “مفهوم الزمن الجميل يعتبر حالاً من النوستالجيا التي تعتري الشعوب المهزومة في حاضرها، غير الواثقة من مستقبلها، بالتالي تحن إلى الماضي كهرب من الواقع بعد أن فشلت في تغييره نحو الأفضل”.
وأضاف “تعبير الزمن الجميل في السودان مفردة مشحونة بالعواطف والتوق إلى ما فات في جميع المجالات. ففي الفن مثلاً نجد اجتراراً لأغنيات الحقيبة، مع أنها تفتقر إلى التوزيع الموسيقي الراقي، بل إنه حتى الألحان تجدها دائرية رتيبة. وفي الرياضة لا نزال نتحدث عن تأسيس الاتحاد الأفريقي قبل أكثر من قرن”.
وعن النوستالجيا السياسية بالتمجيد المبالغ فيه للحقب السياسية السابقة وحتى الديكتاتورية منها يقول السليك “في السياسة يمجد الموالون، لا سيما من عناصر الأحزاب العقائدية المغلقة والطائفية، كل الراحلين من قادتهم، وفي ظل غياب العقل النقدي تنعدم الجرأة، ويصاب العقل بحال من العقم تمنعه من طرح التساؤلات الجريئة، مثل ماذا قدم هؤلاء الزعماء للوطن؟ وما هي محصلة جهدهم؟ وأي عبقرية تلك التي لم تنتج إلا الحروب والفقر والفشل في استغلال الموارد التي يزخر بها السودان، والفشل في إدارة التنوع العرقي الذي يميز البلاد؟”.
ويتابع “الواقع الماثل هو أن أولئك القادة فشلوا في التأسيس لدولة وطنية مستقرة توفر سبل الحياة الكريمة وتصون كرامة الشعب، وفي ظل نظام سياسي مستقر وتنمية مستدامة. فيمكن أن يكون الحنين إلى الماضي حال انفعالية مهمة يحتاج إليها الإنسان خلال أزمنة الانكسارات والخيبات العاطفية والإنسانية والاجتماعية، إلا أن الانكفاء عليها باستمرار يخلق عقلاً سلفياً ماضوياً منكفئاً على نفسه. وهنا يكون الزمن الجميل حالاً مرضية”.
رموز الثورة
عن الظاهرة المرافقة لثورة ديسمبر بمحاولة إعادة بعث ثقافة وحضارة الممالك القديمة في أشعار الثورة وإطلاق الألقاب مثل “الكنداكات” على نساء الثورة، أوضح الكاتب الصحافي أنه “دائماً ما تحتاج الشعوب خلال ثوراتها السياسية والاجتماعية والثقافية إلى رموز [أيقونات] تحولها إلى محاور تماسك تلتف حولها الجماهير، والرمز هو ما يجد فيه أغلبية المشاركين في الثورات ضالتهم. قد يكون شخصاً [شهيداً] يرمز للأحلام، أو قائداً يجسد التطلعات”.
وواصل “إذا نظرنا إلى تاريخ السودان نجد أن الثورة المهدية كانت مجسدة في شخصية الإمام المهدي، لما تمتع به من صفات القيادة والكاريزما، وليس بعيداً من السودان يوجد قادة تاريخيون مثل عرابي في مصر، والسنوسي في ليبيا، وعبر التاريخ كان يلتف الناس حول القادة طوعاً أو قسراً، محبة أو رعباً، لكن مع تطور الوعي تلجأ الشعوب إلى الرموز المعبرة وليست المجسدة، ففي ثورة أكتوبر (تشرين الأول) 1964 تعلق الناس ببطلها الشهيد أحمد القرشي، ويمكن أن يكون التعلق بقيمة مجردة كقيمة الحرية”.
وتابع السليك “أما الرموز التاريخية فهي تو لماض تليد ومشرف، لذلك لجأ الثوار إلى آلاف السنين، واختاروا أيقنة الماضي بحثاً عما يوحد ويصلح للتحشيد والتعبئة. ويساعد على ذلك الشعور بالفخر بالماضي ورموزه، مثلما نرى التعبير في قصيدة ثورية [أنا أمي كنداكة، وجدي تهراقا]، والكنداكة لقب الملكات الحاكمات أو مسمى يعني الزوجة الملكية الأولى في حضارة كوش الأفريقية القديمة ببلاد السودان، التي عرفت أيضاً باسم الحضارة النوبية. أما تهراقا فهو أحد الملوك الكوشيين في مملكة نبتة، وقد جاء ذكره في الإنجيل بعد ذلك على أنه حامي أورشليم، وهذه الممالك في عصور ما قبل الميلاد”.
واستطرد “النوستالجيا تعبير عن بؤس الحاضر واختفاء القائد الكاريزما، وأيضاً تعكس الحال الثورية السودانية رفضاً للمشروع الحاكم ومحمولاته الثقافية والعقدية [الإسلام السياسي]، ولخلق قطيعة مع ذلك كانت العودة لتأسيس منصة الانطلاق من تاريخ الممالك النوبية والكوشية”.
منظومة القيم
من جانبها ترى الباحثة الاجتماعية نجاة عبدالرحمن أن “الحنين إلى الماضي في السنوات الأخيرة انتقل بسرعة من الافتتان بالماضي الاجتماعي والفني والثقافي إلى الماضي السياسي لأغراض تمجيد زعماء سابقين أو عهود سابقة، لأن خيبة الأمل والإحساس بالفشل تعلي من قيمة الماضي، حدثاً كان أو رمزاً أو مظهراً، حتى لو لم يكن كذلك، لكن الشعور النفسي بالإحباط يصنع تلك الصورة في محاولة للإقناع بأنها ممكنة أو ربما تأتي في إطار ذم الحاضر والفاعلين فيه”.
لكن عبدالرحمن أكدت أيضاً أن “هنالك إحساساً عاماً بحدوث هزة في منظومة الأخلاق العامة والقيم الاجتماعية والسياسية، لذلك يلجأ الناس إلى ما كانت تجسده العلاقات الاجتماعية والتنافس السياسي الشريف في الماضي ومقارنتها بما يحدث الآن والتحسر عليها، لكن من دون وضع العوامل التي أدت إلى ذلك في الاعتبار، مما يعوق التعامل مع الظروف المستجدة”.
تشدد عبدالرحمن على أن “الاستسلام للأحداث الحالية مهما كانت قسوتها واحتمالات عدم الخروج منها، وعدم كشف أسباب حدوث التغيير السالب والتعامل معه بواقعية، قد يؤدي إلى نتائج وخيمة نفسياً واجتماعاً، مما يمنع استخدام آليات التكيف مع الواقع ومحاولة تحسينه، وبدأ ذلك يظهر في تفشي الأمراض النفسية”.
وتابعت الباحثة الاجتماعية “لا يقتصر استحداث آليات للتعامل على الجانب الاجتماعي فقط، وإنما يشمل الجوانب الاقتصادية والسياسية أيضاً، فما حدث الآن هو فعل سياسي، ولكن مردوداته الاقتصادية والاجتماعية لن يحلها الهرب إلى الماضي وأمجاده، وإنما مواجهتها بشجاعة”.
مني عبد الفتاح
إندبندنت عربية