رأي ومقالات

جعفر عباس: حرب السودان السيريالية

فجر يوم الخميس الموافق 24 آب/ أغسطس الجاري، تناقل الأثير صورا حية لعبد الفتاح البرهان، قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة السوداني، وهو يلتقي ببعض جنود الجيش المرابطين في منطقة في شمال مدينة أم درمان، وكان ذلك بعد طول غياب عن الأعين، منذ اندلاع الحرب في منتصف نيسان/ أبريل الماضي بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، التي يقودها محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وتناول بعض السودانيين هذه الواقعة بالتهليل والتبجيل، وكأنما نبي الله الخضر حل بأم درمان حاملا بشائر النصر، بينما قال بعض آخر إن الرجل هرب من قلب المعركة إلى أطرافها.

أو أنه خرج من مخبئه بإذن وترتيب من الدعم السريع، وكان حميدتي قد أطلق “تشنيعة” على البرهان في أيام الحرب الأولى، مؤدَّاها أن البرهان يختبئ في سرداب تحت الأرض، طلبا للسلامة الشخصية. من حسبوا أن ظهور البرهان بعد طول اختفاء مؤشر لاقتراب ساعة الحسم والنصر، معذورون لأن آداء القوات المسلحة التي يقودها البرهان في هذه الحرب ما زال محبطا، ولا يليق بكيان عمره قرن من الزمان، وشارك ببسالة في فعاليات الحرب العالمية الثانية، حيث أوقف تقدم الإيطاليين في إريتريا وإثيوبيا نحو شرق السودان، كما شارك في حملة الصحراء الغربية لدعم الفرنسيين في واحتي الكفرة وجالو في الصحراء الليبية، وفي العلمين لوقف تقدم الجنرال الألماني رومل الملقب بثعلب الصحراء.

كما شارك في حرب فلسطين عام 1948، وفي حرب الاستنزاف ضد إسرائيل مرابطا في شبه جزيرة سيناء ما بين 1967 و1973، كما كان الجيش السوداني هو قوة الردع التي منعت الرئيس العراقي الأسبق عبد الكريم قاسم من اجتياح الكويت عام 1961، كما استعانت الأمم المتحدة بالجيش السوداني لحفظ السلام في الكونغو عام 1960 وفي تشاد عام 1979 وفي ناميبيا في 1989. وفي لبنان كانت القوة السودانية العمود الفقري لقوات الردع العربية لحفظ السلام تحت لواء جامعة الدول العربية (1976)، وشاركت قوة من المظليين السودانيين في عملية إعادة الحكومة المدنية في جمهورية جزر القمر عام 2008، ثم دارت الدوائر بهذا الجيش فإذا به في تصنيف وترتيب الجيوش العربية يقبع في المرتبة الحادية عشر، ولا يرقى حتى لمرتبة الجيش اليمني، الذي هو في حال تفكك شبه كامل. وها هو هذا الجيش ذو السجل المشرف يعجز عن دحر ما يسميه بالمليشيا القبلية (الدعم السريع) التي يقودها رجل لا حظ له من التعليم المدني النظامي أو العسكري، ويجدر بالذكر أن الزعيم السياسي السوداني الراحل الصادق المهدي قال عن تلك القوات “ليست لها عقيدة قتالية جامعة كالقوات النظامية، ولا تربطها إلا عصبية قبلية ومنفعة مالية، وتدريبهم وتأهيلهم وتكوينهم لا يمكنهم من ممارسة القتال بالضوابط المعروفة الدولية، فكأنما سلوكها يقول: “أنا الغَريقُ فَما خَوْفي من البَلَلِ”، فكانت عاقبة هذا الكلام أن حكومة الرئيس المخلوع عمر البشير، التي أنشأت هذه القوات، وجهت للمهدي تهما عقوبتها الإعدام، وطوال أربع سنوات ظل فيها البرهان جالسا على كرسي البشير، ظل يردد أن قوات الدعم السريع جزء أصيل من القوات المسلحة.

عجز جيش نظامي زاخر بالعتاد، وذو تاريخ حافل بالبطولات، به ضباط نالوا أعلى وأرقى درجات التدريب والتأهيل، عن دحر مليشيا قوامها شباب من “بادية رعوية”، هو ما يجعل وقائع هذه الحرب سيريالية (فوق واقعية)، ويصعب تصديقها

يتراوح عدد أفراد الجيش السوداني ما بين 105 آلاف و 120 ألف، وحسب تقديرات مجلة جين لشؤون الدفاع Jane’s Defence Weekly لهذا الجيش 191 طائرة حربية من بينها 46 مقاتلة، و81 طائرة هجومية و23 طائرة شحن عسكري، إضافة إلى 11 طائرة تدريب. فيما يصل إجمالي المروحيات العسكرية التي يمتلكها الجيش السوداني إلى 73 مروحية، من بينها 43 مروحية هجومية، ولديه 74 مطارا صالحا للاستخدام العسكري. كما يمتلك الجيش السوداني 830 دبابة و450 مركبة قتالية مدرعة، و15 مدفعا ذاتي الحركة، ونحو 7 آلاف مركبة عسكرية و379 مدفعا. و20 منصة إطلاق صواريخ و750 مدفعا يجر يدويا. وفوق هذا كله فإن عموم المؤسسة العسكرية السودانية تحظى بنحو 80% من مخصصات الميزانية العامة للبلاد، وتتحكم في نحو 80% من مقدرات البلاد الاقتصادية. وبالمقابل فإن قوات الدعم السريع، ورغم أنها فعلا نشأت بموجب مرسوم صادر عن الرئيس المخلوع عمر البشير باركه البرلمان، فإنها في جوهرها ومظهرها مليشيا قبلية تخضع لإمرة آل دقلو، ولها سجل حافل بالجرائم ضد الإنسانية، ولكنها لا تملك سلاح طيران أو مدرعات أو مدافع ميدانية بعيدة المدى، ومع هذا ظل الجيش الوطني بكل عدته وعتاده عاجزا عن دحرها لأكثر من أربعة أشهر، في مواجهات في رقعة محدودة فيها معظم قيادات الجيش ووحداته المركزية الضاربة، وهناك من يحاول اختلاق الأعذار للجيش بأنه مثل سائر جيوش العالم بلا خبرة في حروب المدن، ولكن الدعم السريع أيضا لم يسبق له خوض حرب داخل مدينة. عجز جيش نظامي زاخر بالعتاد، وذو تاريخ حافل بالبطولات، به ضباط نالوا أعلى وأرقى درجات التدريب والتأهيل، عن دحر مليشيا قوامها شباب من “بادية رعوية”، هو ما يجعل وقائع هذه الحرب سيريالية (فوق واقعية)، ويصعب تصديقها، وما من تفسير لذلك العجز إلا بأن المليشيا كانت تعد لهذه الحرب منذ فترة طويلة، في غفلة من أعين قيادة الجيش، أو بأن أولئك القادة كانوا على علم بذلك، ولكنهم استهانوا بالأمر، بحسبان أن مليشيا قائدها الأعلى شبه أمي لا يمكن أن تتجاسر على جيش عريق فكان ما كائن من حيث تعادل الكفتين، وهو تعادل يبوء فيه السودان بالخسران.

جعفر عباس – عربي21