أسعار صرف العملاتاقتصاد وأعمال

العودة للجذور في السودان

العودة إلى جزيرة بَدِين (1/2)
كتبه ـ عثمان أبوزيد
كلما أرجع إلى ولاية الخرطوم عائدًا من الولاية الشمالية عن طريق شريان الشمال، يلح على خاطري سؤال: لماذا نترك كل هذه المساحات الواسعة من أرض السودان لنتكدس ونزدحم في رقعة صغيرة بالعاصمة؟
بعد اندلاع حرب 15 إبريل انتقلت أعداد كبيرة من سكان ولاية الخرطوم إلى الولايات الأخرى. عاد الكثير من الناس إلى مناطقهم الأصلية، وفيهم من عاد بعد سنين طويلة، وبعضهم يرون أرض الآباء والأجداد أول مرة.
ناقشتُ أثر هذا الانتقال على اللائذين بالولايات ولا نسميهم النازحين، مع ثلاثة من الإخوة الدكاترة واستمعت إلى ملاحظاتهم، وهم: الدكتور عبد الرحمن بن عبد الرحمن طبيب جراح من جزيرة بدين، والدكتور عبد القادر أحمد إسماعيل استشاري الطب النفسي من الغابة، والدكتور عبد الكريم محجوب الأستاذ في جامعة أم درمان الإسلامية، متخصص في التقانة الحيوية.
د. عبد الرحمن يشير إلى وصول أعداد كبيرة من الأهل إلى موطنهم بجزيرة بدين. بعضهم غادروا بدين قبل عشرات السنين ولم يكن في خططهم زيارتها أو العودة إليها.
وهناك أجيال ولدوا وتربوا في بلاد الغربة ولم يعتادوا على حياة القرية.
يلاحظ الدكتور بعض ظواهر خرطومية في البلد، من أمثلتها كثرة رحلات الشباب والشابات لمنطقة الشلالات الجميلة في شمال بدين والسهر إلى ما بعد منتصف الليالي كأنهم في شارع النيل في الخرطوم مما أدى لشكوى اصحاب الأرض لدى السلطات وإصدار أمر بمنع الرحلات وهذا سيؤدي إلى حرمان الناس من الاستمتاع بالضفاف وقضاء أجمل الأوقات.
يقول عبد الرحمن: السباحة من المهارات الأساسية للشباب في بدين بحكم جغرافية الجزيرة التي تحيط بها جزر زراعية وسكنية وسياحية، لذلك يتعلم الأطفال السباحة. وللأسف حصلت حوادث غرق فردية وجماعية وسط القادمين من الخرطوم الله يرحمهم ويتقبلهم شهداء.
وأذكر هنا والشيء بالشيء يُذكر أنني ذهبت الجمعة لتعزية أخٍ فقد ثلاثا من بناته في حادث غرق أليم، وأولاده من القادمين للبلد بعد الحرب.
يلاحظ الدكتور عبد الرحمن أيضا حصول وفيات كثيرة نسبيًا بسبب أمراض مزمنة وليس انعدام العناية الطبية، مع صعوبة الحصول عليها كالسفر لمدينة مروي للعلاج او لعمل أشعة مقطعية فقط أو إرسال عينة فحص نسيجي لعطبرة وضياع وقت ثمين قبل الوصول للتشخيص، واضطر بعضهم للسفر للخارج.
وأقول تعليقًا على هذه الملاحظة القيمة أن هذه الحرب أوضحت وجود فوارق كبيرة بين العاصمة والولايات وتركيز الخدمات بصورة أساسية في الخرطوم. هذه الفوارق موجودة داخل الولايات نفسها… أضحكني ما سمعته أن البعض في القرى التي لا تتوفر فيها شبكة الانترنت يبعثون بهواتفهم مع أي خارج من القرية لإرسال رسائل واتساب وتلقي الرسائل الواصلة. كنت أركب الحمار مسافة طويلة للوصول إلى بوستة فريق لأتسلم الرسائل القادمة وإرسال التلغرافات.
ملاحظة أخرى يبديها الدكتور عبد الرحمن هي زيادة انتشار تجمعات (الكتشينة والضمنة) نسبة للفراغ الكبير وسط طلاب الجامعات المغلقة والموظفين والعمال النازحين من الخرطوم.
وهذه التجمعات صاحبتها الوجبات الجماعية للرجال، وكذلك النساء وخاصة الأسر الكبيرة والممتدة، ومثالٌ للوجبات الجماعية في شَبَّه (من قرى جزيرة بدين) أذكر لَبَخة المرحوم عابدين سعيد، وديوان الزعيم عكاشة وراكوبة أمير ادريس ويمكن لاي عابر ان يتمتع بوجبة دسمة وغيرها كثير.
من الآثار الايجابية الأخرى رجوع بعض الأسر بعد عشرات السنين من الهجران والتواصل مع الأهل وإعادة إعمار البيوت المهجورة وصيانتها فدبت فيها الحياة بعد إدخال خدمة المياه والكهرباء وتشغيل بعض الكرجاكات القديمة (طلمبات لضخ الماء).
التمس البعض الآخر العمل في مهن بأجور قليلة تدرّ عليهم بعض الدخل لتوفير الاحتياجات اليومية مثل توصيلات الكهرباء في المنازل، وقد تؤدى هذه الخدمات في أحيان كثيرة بلا مقابل، كما انخرط بعض الطلاب في أعمال اليومية كحفر الآبار وقطع (الطوب الاخضر) والبناء والعمل في المتاجر.
ولعل من أهم النتائج لهذه العودة ارتباط الأطفال والشباب بجذورهم، وتعلم اللغة النوبية بالممارسة، والتعرف على تاريخ المنطقة بزيارة مواقع الآثار القديمة مثل (اقجنندي) وزيارة الدفوفة ومتحف كرمة.
واستفاد الشباب والطلاب بكورسات التقوية في المدارس مع وجود معلمين ومعلمات، والاشتراك في التدريب العسكري استجابة لنفرة القوات المسلحة لنصرتها عند اللزوم والدفاع عن النفس، وكذلك في الاشتراك في الدورات الرياضية، ودورات الاسعافات الأولية التي ينظمها الهلال الأحمر.
هنالك استفادة ملموسة من خبرات المختصين كلٌ في مجاله كالزراعيين والمدرسين والمهندسين والأطباء.
عمل الأطباء في عيادات طبية للعلاج والمتابعة والاستشارات مجانا وإجراء بعض العمليات الجراحية مجانا. فتح بعض الأطباء فروعًا لعياداتهم الخاصة في كرمة والبرقيق ودنقلا مما خفف من مشقة السفر وتخفيف التكلفة المادية والعبء على الأهل.
وقد تطوع بعض الكوادر الصحية كالأطباء والتمريض واختصاصي المختبرات والأشعة ومهندسي المعدات الطبية وبعض المغتربين والهميمين بالعمل في مستشفى بدين ضمن النفرة الأخيرة لتشغيل غرفة عمليات مستشفى بدين، وتحسين بيئة المستشفى والحضور الإيجابي لاجتماعات لجان المستشفى، وكذلك مناظرة بعض الحالات المنومة بالمستشفى والإسهام بالرأي الطبي لطبيب المستشفى.
عمل البعض في الزراعة الموسمية وزراعة النخيل والفواكه والأعلاف والخضروات ونظافة الجناين الخاصة القديمة، وتعلم الأطفال لقيط التمر عند الحصاد واللعب بالطين وعمل نماذج للحيوانات والبيوت وركوب الحمير وحتى (حمار العصاية)!
تحرك الاطفال بحرية وأمان وسط القرى والتعرف على الأهل وعمل صداقات جديدة والابتعاد عن التلفزيون ولعبات الكمبيوتر والجوال.
تعلمت سيدات المنازل الشابات (العواسة) وعمل القراصة والملوحة وقراصة البلح بدلا عن طلب الوجبات الجاهزة للبيتزا والفطائر.
(نواصل)

العودة إلى جزيرة بَدِين (2/2)
وإطلالة على جبرونا وحِزيمة
“””””””””””””””””””
كتبه ـ عثمان أبوزيد
نقلنا في الحلقة الأولى عن الدكتور عبد الرحمن بن عبد الرحمن ملامح من جزيرة بدين وهي تستقبل الواصلين إليها بعد مغادرة ولاية الخرطوم بسبب الحرب.
وفي الحلقة الثانية نطل على جبرونا الغابة حيث يتناول الدكتور عبد القادر أحمد إسماعيل استشاري الطب النفسي، مغزى وجود أهل الخرطوم بالولايات من زاوية أخرى.
قد يكون لهذا الوجود أثر إيجابي في ثقافة الإنتاج، فهناك شباب من طلاب الطب في مدينة دنقلا افتتحوا أماكن لبيع الطعمية وأقاموا طبليات، وهذا مظهر إيجابي.
لكن الدكتور عبد القادر يلاحظ أن العناية بالزراعة صارت أقل كثيرًا مما كانت عليه، يقول: “عندنا مساحة ضخمة في منطقة جبرونا بقلب الغابة اسمها ضرب نار، لأن الخواجات كانوا بدربوا فيها الشرطة على ضرب النار… قسمها الخواجات على السكان وكانت محددة لزراعة الفول والقمح في الشتاء والعلف من عيدان الذرة والذرة الشامية في بقية السنة… جدي لأمي مزارع. كان عندو أربع [قسيبات المفرد قسيبة] وهي صومعة مصنوعة من الطين تحفظ الحبوب دون أن تفسد أو تصيب منها الحشرات.. الواحدة تسع أقل شيء ثماني شوالات.. الأولى للفول المصري، والثانية للقمح، والثالثة للذرة، والرابعة للذرة الشامي.. يعنى مؤونة السنة لبيته وكثير من الفقراء ممن لا يملكون الأرض.. وكان يبرمج ولادة أبقاره.. فواحدة حديثة الولادة والثانية على وسط نهاية اللبن، والثالثة جاهزة للتخصيب والرابعة في منتصف الحمل.. كنا ننزل عنده في الإجازة.. سبع أسر كل أسرة بأطفالها. جملة أكثر من خمسين ضيف لثلاثة أشهر.. وكل جمعة خروف…
يخرج الجد في البكور لمزارعه… ويعود لقيلولة، وعندما يذهب الرجال لصلاة العصر يحملون في أيديهم المناجل..
تعال شوف الليلة السهر مع التلفزيون والواتس والموبايلات والجدل في السياسة وجلُّ المحتوى (شناف) وذم للسلطات.. لا إنتاج، دايرين الجاهز كاش من الخليج. بسْتَنُوا كل الأراضي، الفواكه لا تحتاج لحصاد ببيعوا الجنينة لسماسرة الخرطوم…”.
التنظيم الدقيق في العمل الزراعي الذي يصفه د. عبد القادر عند جده، كان هو السائد انضباطًا بمواسم بذر البذور والسقي والحصاد، وتوزيعًا للعمل في الساقية على نحو دقيق.
الأستاذ الدكتور عبد الكريم محجوب من جامعة أم درمان الإسلامية، يلاحظ أن عودة الناس إلى مناطقهم بعد الحرب أحدث تفاعلا إنسانيا وأثرًا ملموسا. تضاعفَ عدد السكان في كل القرى والمدن، والناس عندما يكثرون عددًا تظهر لديهم الحاجة إلى التنظيم والإدارة. ينقل ذلك عن الدكتور الهادي عبد الصمد وكتابه (الإنسان والتنظيم).
حاجة الناس إلى التنظيم والإدارة لمسته عندنا في حزيمة مركز مروي ـ والحديث ما يزال للدكتور عبد الكريم ـ جمعنا سبعين مليار جنيه للمشروع الزراعي، ووفرنا ثلاثة أنواع من الطاقة؛ الكهرباء والطاقة الشمسية والجازولين.
ويتفق الدكتور عبد الكريم مع عبد القادر في أن الزراعة تحتاج لاهتمام أكبر، خاصة أن الأجيال الجديدة لم ترث تقاليد الزراعة عن الآباء والأجداد.
والأمل معقود على كليات الزراعة في جامعاتنا بأن ترتبط مناهجها مع حاجة العمل ومتطلبات الحقل وبيئة الإنتاج في الولاية.
ويعود الحديث إلى الدكتور عبد القادر: “الكل يحلمون بمنجم ذهب.. أعدُّ ورقة الآن في ألوان الأمراض النفسية السائدة مع خيبة أمل الغالبية ممن بحثوا عن الذهب”… لكن أخطر ما في حديث الدكتور عبد القادر إشارته إلى انتشار المخدرات، إذ كانت الولاية في عافية من هذه الناحية.
ويبدي الدكتور عبد القادر عجبه وهو يستقبل في بيته “ثلاثين ولدًا وكلهم أقل من عمر العشرين، أتوا لمشاهدة ريال مدريد والكورة إلى قرب منتصف الليل.. يشاهدون كل مباريات برشلونة وأندية مانشستر… ويعرفون كل لاعب ومتى سجله النادي وجنسيته.. هؤلاء رجال المستقبل افئدتهم وقلوبهم هواء من الزراعة… الكل يشترى الفول حَبْ.. وما أكثر الأفران.. لها رواج، وتقهقر صنع القراصة والفطير الجميل…”.
وأسعدني حديث سمعته من الأستاذ ممدوح زكريا من السكوت أن شبابًا قادمين من الخرطوم أدخلوا إنتاج السمك المجفف (الكجيك) في منطقة (سيد عكاشة)، وبدأوا تصديره إلى ولاية القضارف، وهم يزودون المنطقة بالصيد الوفير من السمك.
وحدثني ممدوح أن الاحتفال بالمولد النبوي هذا العام أثراه وجود علماء وأساتذة جاءوا من الخرطوم، وتناقل الناس خبر ذلك المحسن من دلقو الذي أهدى ثورين لاحتفال المولد.
ولا تنتهي الانطباعات عن الحرب وخروج الناس من الخرطوم لائذين بأهلهم، دون أن ينفتح باب للنقاش المثمر حول المستقبل المأمول لوطن مثخن بالجراح، وأهم ما يجب الانتباه إليه؛ تنمية الريف والارتفاع بجودة الحياة فيه.
ولا شك أن مثل هذا النقاش إذا وجهناه وجهته الصحيحة، من شأنه أن يؤدي إلى إضفاء المعنى على الأحداث والأشياء والصور… أو بتعبير أخينا الدكتور محمد جلال هاشم إحساس الناس بذاتهم من خلال وعيهم بالعمق الوجودي.