رأي ومقالات

الدكتور حسن الترابي .. زوايا وأبعاد


اطلعت على مقال رائج منسوب للأستاذ مصطفى عبد العزيز البطل قدّم فيه فذلكة سريعة عن الدكتور حسن الترابي في أحد القروبات الفكرية والإعلامية حيث قدّم مرافعة ضد اتهام الدكتور التربي بقلة الإنتاج الفكري في نقاش دار في تلك المجموعة المتميزة حيث دفع عن الدكتور الشيخ العلامة حسن الترابي تهمة قلة الانتاج الفكري والمؤلفات وعكست المقالة المتداولة ملخص لقدرات الترابي التأصيلية والتجديدية وربط كل ذلك بالعمل السياسي والتنظيمي التجريبي والارتقاء بأداء الحركة الإسلامية خلال خمسين عاماً قضاها في زعامته لها وأتفق معه في كل ما ذكر ..

وفي تقديري فإنّ إسهامات الترابي المتعددة تضعه في عدة قوالب سوف أستعرضها في هذه العجالة بصورة موضوعية وغير منحازة وأعلم أنّ هذا عبءٌ كبير سيصيبني منه رشاش من رابطة محبّي ومعجبي الدكتور الترابي الذين يحتفلون بكلّ تقريظ له ولا يطيقون فيه نقداً .. ولكن الدكتور الترابي شخصية عامّة نذر حياته للعمل العام ومن حقه علينا تبيان مناقبه ومثالبه فتلك سنة ماضية منذ أن وجدت الشخصيات العامة فكتب سيرها مفتوحة ونقدها مقبول متى ما التزم ذلك النقد الموضوعية المدعمة بالشواهد والأحداث والتحليل المقبول لها وبالله الإعانة بدءاً وختماً فنقول في ذلك :

١/الترابي قدّم نفسه فقيهاً يفتي في قضايا شرعية وبعضها خلافي مثل افتائه باستمرار عقد نكاح الكتابية التي أسلمت من زوجها الكتابي خلافاً لإجماع الفقهاء بالتفريق بينهما …
وكذلك فتواه بعدم صحة بعض الأحاديث مثل حديث الذبابة وإنكار عذاب القبر ودحض قدوم المهدي المنتظر وجواز الموسيقي والمعازف والرقص والفنون وإمامة المرأة للصلاة الخ ..
وهذه كلها من فتواه التي حدث حولها خلاف كبير.

٢/ وهو أيضاً مفسر للقرآن معتمداً على الشواهد العقلية والعلمية وما يعضدها من معاني اللغة العربية ومصطلحاتها وإن خالفت مأثور التفسير ولا يعبأ كثيراً بالتفسير السلفي أو الأثري مما يجعله في أحيان كثيرة معارضاً في تفسيره لمفاهيم إسلامية مجمع عليها لدى كثير من علماء المسلمين ويوقعه في مرمى النيران من تفسيق ووصفه بالزندقة لدى بعض المدارس السلفية المتشددة .. وأتفق مع كاتب المقال بأن منهج الدكتور الترابي أقرب للفكر المعتزلي ومنهج الكشاف في التفسير.

٣/ الترابي فقيه دستوري وقد ورد أنه حرر دستور السودان للعام ١٩٩٨ لوحده إضافة لخبراته كفقيه دستوري ساهم في كتابة دستور دولة الأمارات العربية المتحدة

٤/ الترابي مفكّر وذو قدرات في التنظير والتخطيط المستقبلي والvision (البصيرة النافذة) واستطاع إنزال تنظيراته إلى واقع عملي حين واتته الظروف بعد انقلابه في العام ١٩٨٩ وهذا نادر الحدوث.

٥/ بدأ صعود نجم الترابي عقب ثورة أكتوبر ١٩٦٤ واستطاع السيطرة على زعامة الحركة الإسلامية بعد معركة قصيرة مع التيار السلفي الإخواني داخلها وتوّج تدشينه السياسي بمصاهرة آل المهدي وتحالفه في الستينات مع صهره الطموح الصادق المهدي ضد عمه الإمام الهادي مما أدّي لشق حزب الأمة لجناحين.

٦/ الأداء السياسي للترابي :
شارك الترابي بتنظيمه الذي يطغى عليه المكوّن الطلابيّ النشط في مناهضة نظام مايو ١٩٦٩ في حقبة سبعينيات القرن الماضي وشارك مع حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي في العمل المسلح ضد نظام نميري (١٩٧٥/ ١٩٧٦) ثم انفرد بمشاركته سلطة مايو بعد خروج الحزبين الآخرين عن المصالحة الوطنية (١٩٧٧) وتسبب ذلك في انشقاق حزبه الصغير احتجاجًا من التيار السلفي الإخواني داخل الحركة الإسلامية على المصالحة مع نظام نميري ومن ثمّ أدّى ذلك إلى فصل / خروج الحركة الإسلامية التي يتزعمها الترابي عن التنظيم العالمي للإخوان المسلمين عام ١٩٧٨

وفي العام ١٩٨٩ انقلب الترابي على حكومة صهره الصادق المهدي وأودعه الاعتقال مما أجبر صهره على الهروب من السودان متخفياً
وعقب تدبير إنقلاب يونيو ١٩٨٩ أنزل الترابي كل تنظيره في الحكم إلى واقع سياسي
وأحكم الدكتور الترابي قبضته على الدولة السودانية وإدارتها من الباطن ..

ثم قام بتشكيل المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي وأصبح زعيماً للإسلاميين في العالم وأعاد علاقته المتوترة مع التنظيم العالمي للإخوان المسلمين مما جلب علي السودان كثيراً من الحنق العربي والغربي والمقاطعة الاقتصادية لاحقاً

خرج الترابي للعمل السياسي العلني عقب حلّ المجلس العسكري للإنقاذ في العام ١٩٩٣ وإجراء انتخابات صورية فاز الترابي في إحدي دوائرها وتولّى رئاسة البرلمان في أواخر التسعينيات

نتج عن خروج الترابي للمارسة السياسية العلنية احتكاكه مع الرئيس عمر البشير في إدارة الشأن اليومي للدولة ومن ثمّ مواجهته داخل البرلمان وتقديم مقترح لتعديل دستوره الذي حرّره بيده لتقييد صلاحية الرئيس في تعيين ولاة الولايات .. مما أدّى للمفاصلة بين الرئيس والشيخ الرئيس وكوّن الأخير حزب المؤتمر الشعبي ..

وقبل هذه المفاصلة أدّى التدخل المستمر للدكتور الترابي في إدارة الدولة إلى اهتزاز صورة الرئيس عمر البشير وساهم ذلك في التعجيل بالمفاصلة بين الرجلين

وقّع المؤتمر الشعبي مذكرة تفاهم مع الحركة الشعبية لتحرير السودان في جنيف في العام ٢٠٠٠ وبدأ المؤتمر الشعبي حليفاً للحركة الشعبية ومغازلاً للتجمع الوطني الديمقراطي المعارض وخصماً لدوداً للمؤتمر الوطني .. مما أدّى لإيداع الشيخ الترابي في الحبس التحفّظي

التحالفات الجديدة والتنافس الانتهازي بين الفصيلين الإسلاميين الحكومي والمعارض الذي يتزعمه الترابي أعادت تسويق الحركة الشعبية والتجمع الوطني وأجبر ذلك الجيش السوداني المنتصر في صيف العبور ومعارك الجنوب والحكومة السودانية التي انتصرت في معارك التنمية وبوادر ظهور الاستقرار الاقتصادي باستخراج البترول السوداني وتصديره في أواخر التسعينيات للدخول في مفاوضات سلام مع الحركة الشعبية لتحرير السودان والتجمع المعارض وتوقيع بروتوكول مشاكوس واتفاقية نيفاشا التي أدت لانفصال الجنوب لاحقاً واتفاقية القاهرة مع التجمع الديمقراطي.

استمر الترابي وحزبه الصغير في التنسيق مع الحركة الشعبية بعد اتفاق نيفاشا وقدّم المؤتمر الشعبي مرشحاً جنوبياً في انتخابات عام ٢٠١٠ (الدكتور عبد الله دينق نيال) وحرّضوا الحركة الشعبية على عدم سحب مرشحها (ياسر عرمان) من الانتخابات وذلك بغرض تشتيت الأصوات وتقليل فرص الرئيس البشير في الفوز ..

وقد سبق للمؤتمر الشعبي أن أعلن ترحيبه بأن يترشح سلفاكير لرئاسة السودان وذكروا أنهم سوف يؤيدونه إن فعل

اتُهم الدكتور الترابي ومؤتمره الشعبي بتأسيس حركة العدل والمساواة المتمردة والتي حاربت الجيش السوداني وساهمت في إضعافه وقامت بغزوة أمدرمان في مايو ٢٠٠٨ مما أدّى لأن يستعين الجيش لاحقاً بمليشيا الجنجويد في حربه ضد حركتي العدل والمساواة وحركة تحرير السودان (التي تدعمها الحركة الشعبية – SPLA)

وكانت هنالك مقولة رددها الدكتور الترابي بأنه يستطيع حلّ قضية تمرد دارفور في بضعة أيام ممّا يعزز فرضية التآمر ضد الجيش السوداني..

تطورت لاحقاً مليشيا الجنجويد إلى قوات حرس الحدود ثمّ قوات الدعم السريع في العام ٢٠١٣ والتي تقود الآن (٢٠٢٣/ ٢٠٢٤) حرباً ضروساً ضد الدولة السودانية وضدّ الإسلاميين الذين جاءوا بهذه القوات.

٧/ لمحات من شخصية الترابي وأثرها في بعض المواقف والأحداث:
أُشيع عن الدكتور الترابي ردوده اللاذعة لمن يخالفونه الرأي داخل الحركة الإسلامية والتعريض بهم مما جعل الكثيرين يتجنبون الإدلاء بآرائهم أو انتقاده.
استطاع الدكتور الترابي تحمّل وتجاوز انتقادات النميري المهينة لحركته ووصفها بأوصاف جارحة (إخوان لشياطين) وتهميشه له في وظيفة المستشار والتكتم على قوانين سبتمبر ١٩٨٣ إلى لحظة إعلانها الخ ..

وكل سعة الصدر هذه مفهومة في إطار دور الترابي كزعيم للإسلاميين ولكن عندما آلت الأمور للدكتور الترابي في انقلاب يونيو ١٩٨٩ تعمد الترابي الظهور بمظهر القائد الفعلي للدولة ممّا أحرج الرئيس عمر البشير مع السفراء والمسئولين والرؤساء ..

كذلك عند حدوث الإنقلاب فضّل الدكتور الترابي الدخول لسجن كوبر تحسباً لأيّ مسئولية قانونية عند فشل الإنقلاب .. وكان الاتفاق المبدئي بقاؤه بالسجن للستة أشهر الأولى واحتج الدكتور الترابي وأنصاره المقربون داخل الحركة على تطاول مدة حبسه الذي امتد لعام كامل بسبب تقديرات القائمين على الأمر وقتها .. وكان لا ينبغي لهم هذا الاحتجاج إذا كان الأمر قراراً تنظيمياً لأن قيادة الحزب والدولة يكون لها السلطة التقديرية في تحديد مدة الحبس الملائمة ولكن يبدو أنّ الغرض الأساسي من الاعتقال كان يتعلّق بحماية أمن وسلامة رئيس الحزب أكثر من كونه تمويها تكتيكياً ..

ولم يتسن لي التأكّد إن كان ترتيب سجن الدكتور الترابي قراراً تنظيمياً أم خياراً شخصياً ..
تطاول فترة حبس الدكتور الترابي في بداية عهد الإنقاذ خلقت جفوة وعدم ثقة بين الترابي ونائبه علي عثمان .. ووطّدت العلاقة الشخصية الوثيقة بين الأستاذ علي عثمان والرئيس عمر البشير تفاقمت هذه الجفوة عندما آلت القيادة بكاملها إلى الأستاذ علي عثمان خلال فترة غيبوبة الدكتور الترابي بعد اعتداء كندا .. وترتب على هذه الأيلولة اطلاع الأستاذ على كلّ ملفات الحركة السرية التي كان يديرها شيخ حسن منفرداً بما فيها ملف أموال الحركة واستثماراتها ..

وكانت هذه ثالثة الأثافي في تأزيم العلاقة بين الرجلين بعد تعافي أمير الحركة من غيبوبته .. وتفاقمت تلك العلاقة وتأزّمت إلى أن وصلت إلى محطة مذكرة العشرة وما تبعها من مفاصلة في ديسمبر ١٩٩٩ علماً بأنّ الأستاذ علي عثمان نفسه ليس من الموقّعين على هذه المذكرة ولكن يتهمه الترابيون بأنه العقل المدبّر لها ..

حديث ركوب الغرّابية: وهو أشبه بحادثة الإفك في السيرة النبوية حيث تطوع الترابي بالترويج لها للنيل الشخصي من الرئيس عمر البشير وكانت الحرب الأهلية في دارفور على أشدّها في ذلك الوقت ولم يكن ذلك الترويج موفّقاً أو مقبولاً صدوره من زعيم إسلامي في قامته ..
وأخيراً اعترافات الترابي لأحمد منصور في برنامج شاهد على العصر ضد نائبه على عثمان وتجريمه بتدبير محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك – وكان أقرب في أقواله لشاهد الملك منه للزعيم الحزبي – وإصراره على بثّ شهادته بعد وفاته .. مع تبرئة نفسه تماماً من العملية ومعلوم أنه كان الزعيم الأوحد في عام ١٩٩٥م حين جرت محاولة الاغتيال وكانت لا تسقط ورقة في عالم السياسة ولا حبة في ظلمات جهاز الأمن إلا ويعلمها .. ولربما يكون قد قرر التعامي عن التدبير بمنهج التقية الكوبري .. فإن نجحت المحاولة تبناها وإن فشلت نأى بنفسه عنها وأوشي بالفعلة وهو ما يسمّي بمنهج الwin – win عند بني الأصفر الخواجاتيين ..

ختاماً فإنّ الدكتور الترابي من أكثر الشخصيات التي انقسم حولها السودانيون فحين يراه أحبابه ومريدوه من الإسلاميين قائداً أوحد فذّاً وقديساً يرفعونه إلى مرتبة أقرب لمرتبة الأنبياء ويصفه خصومه السياسيين بالدهاء والمكر والشيطنة ويرميه أعداؤه من السلفيين بالزندقة والفسق ..
ولكن من المؤكد أنّ الدكتور الترابي انفرد بقدرات فكرية وتنظيمية عالية إضافة إلى نبوغه في القانون الدستوري وكاريزماه العالية وكان يمكن أن يكون أعظم تأثيراً إذا اقتصر دوره على التفكير والتنظير السياسي وقيادة الحركة وأبويتها (God Father) ونأى بنفسه عن الخوض في تفاصيل السياسة اليومية .. ولكان ذلك خيراً للسودان وأحسن تأويلاً ..
رحم الله شيخ حسن.

بابكر إسماعيل
٢٥/ ٤ /٢٠٢٤