رأي ومقالات

وقفة بين يدي وصية الأمير خوليوت إبن بعانخي

بالرغم من اعتدادي بديني الإسلام، وحرصي الأكيد على تشكيل وجداني بكل مايُعْلِي من قدر هذا الدين في دواخلي، إلا إنني أجد (شئا ما) يشدني إلى الأمير خوليوت إبن بعانخي، من خلال وصية عظيمة كتبها على حجر صوان أكْتُشِف في معبد آمون الموجود في جبل البركل، ثم نقلت إلى المتحف القومي في مدينة الخرطوم، ولم تزل باقية هناك.

لقد نشأتُ في قريتي البركل حيث يسمى أهلنا في هذه المنطقة جبل البركل ب(جبل ود الكرسني)، وخلال طفولتي كان جدي رحمه الله يحرص على أخذنا إلى الجبل وكنا مجموعة من أحفاده، فيُشير إليه قائلا:

دا جبل جدي وجدكم ود الكرسني، ثم يزور غرفة صغيرة بجوار الجبل، داخلها (تابوت) مكسو بقماش أخضر اللون، يدس يده فيه ويضع بعض النقود، فأرى امرأة عجوز تحرس الغرفة تأخذ تلك النقود، وهو يراها لكنه لايعترض على ذلك.

وكَبُرتُ، وعلمت بأن تلك الممارسة ما كانت إلا ممارسة صوفية خاطئة، واندثرت الغرفة التي تحوي التابوت بغطائه الأخضر، وتوفى الله العجوز، وإذا بي أُفَاجَأُ بوصية (عظيمة) للأمير خوليوت إبن بعانخي!، هذه الوصية وُجِدَت داخل معبد آمون المنحوت في جوف جبل البركل حجر كبير في شكل مسلة متوسطة الحجم، فإذا بي أصبحتُ أرى وجه خوليوت كلما ذكر الذاكرون إسم جبل البركل، أو إكتحلت عيناي لمرآه خلال أيما عودة لي إلى قريتي البركل!

وإذا بي كذلك أرى الرجل في عدد من الرؤى المنامية يجلس على عرش أبيه الملك بعانخي بوقار الملوك، ويبتسم في وجوهنا ونحن يُفَّعٌ نلعبُ بين يديه، وقد رسخ في اذهاننا بأنه (جدنا الأكبر) ونحن أحفاده!

وصية الأمير خوليوت العظيمة هذه ترجمها من الهيروغليفية إلى العربية البروفيسر العباس سيد أحمد عام 2008م وتتلخص في الآتي:
إنني لا أكذب.
ولا أعتدي على ملكية غيري.
ولا أرتكب الخطيئة.
وقلبي ينفطر لمعاناة الفقراء.
وإنني لا أقتل شخصاً دون جُرمٍ يستحق القتل.
ولا أقبل رشوةً لأداء عملٍ غيرِ شرعيٍّ.
ولا أدفع بخادمٍ استجارني إلى صاحبه.
ولا أعاشر امرأة متزوجة.
ولا أنطق بحكمٍ دون سند.
ولا أنصب الشِراك للطيور المقدسة.
أو أقتل حيواناً مُقدَّساً.
إنني لا أعتدي على ممتلكات المعبد.
بل أقدم العطايا للمعبد.
إنني اُقدم الخبز للجياع.
والماء للعطشى.
والملبس للعُراة.
أفعل هذا في الحياة الدنيا.
وأسير في طريق الخالق.
مبتعداً عن كل ما يغضب المعبود.

لكي أرسم الطريق للأحفاد الذين يأتون من بعدي في هذه الدنيا وإلى الذين يخلفونهم وإلى الأبد.
(خوليوت إبن بعانخي).
تخيلوا بأن هذه الوصية قد كُتِبَت قبل ميلاد المسيح عليه السلام بسبعمائة عام!
وللعلم فإن الفارق الزمني بين أنبياء الله موسى وعيسى، هي ألف وخمسمائة عام كما ورد في قصص الأنبياء لابن كثير، وإذا بي أجد في الوصية وصلا بالوصايا العشر في اليهودية!
وهذه هي الوصايا العشر في اليهودية:
من الوصايا ماينظم علاقة الرب بالإنسان؛
1- لا يكن لك آلهة أخر غيري.
الله يأمر بني إسرائيل ألا يشركوا بالله إلها آخر، وتحرم عبادة غير الله، وكل ما عبد من دون الله فهو باطل.
2- لا تصنع تمثالا منحوتا ولا صورة لما هو موجود في الجنة.

حرم الله على بني إسرائيل صناعة وتشكيل ما يمثل الله على الأرض وعبادتها، لأنه نوع من أنواع الإخلال بالتوحيد.
3- لا تقسم بإسم الرب باطلا، لأن الرب لا يبرئ من نطق باسمه باطلا.
أمر الله بني إسرائيل أن لا يحلفوا بالله كذبا أو الاستخفاف باسمه، بل يجب معاملة إسم الله باحترام تام وبكل أدب.
4- تذكر يوم السبت وإجعله مقدساً.
أمر الله بني إسرائيل أن يقدسوا كل يوم سبت، وقد أحل الله على بني إسرائيل العمل في كل الأيام إلا يوم السبت فإنه يوم لتقديس الله وللعبادة فقط.
ومن الوصايا ماينظم علاقة الإنسان مع أخيه الإنسان؛
5- أكرم أباك وأمك.
الله طلب من بني إسرائيل أن يحترموا الوالدين وألا يسيئوا لهما.
6- لا تقتل.
حرم الله على بني إسرائيل القتل المتعمد للإنسان.
7- لا تمارس الزِّنى.
حرم الله على بني إسرائيل الزنا.
8- لا تسرق.
حرم الله على بني إسرائيل أخذ ما هو ليس لهم بغير حق.
9- لا تشهد علي قريبك شهادة زور. حرم الله على بني إسرائيل شهادة الزور التي يترتب عليها ضياع حقوق البشر.
10- لا تشته زوجة جارك.
حرم الله على بني إسرائيل اشتهاء ما ليس لهم.
وإذا بي أُنَقِّبُ وأقرأ أكثر عن الحضارة النَبْتِيَّة الكوشية، فإذا بملوك كوش (موحدون لله) وصلا بديانة آمون!.
واتصلت قراءاتي، فإذا بي أقع على نص ذُكِرَ في الأنجيل في سفر أعمال الرسل الإصحاح 8:26-40 فحواه الآتي:
(تحدث ملاك الرب الي فيليب قائلاً: أستيقظ وإذهب الي الجنوب الي الطريق الذي يذهب الي الأسفل من اورشليم الي غزة الي الصحراء، فأستيقظ وذهب، ولمح رجلاً خصياً من إثيوبيا وكان ذو مرتبة عظيمة عند ملكة اثيويبا الكنداكة، فهو المسئول عن كنوزها، وقد اتي الي اورشليم للعبادة، وهو يستعد للعودة الي دياره جالساً في مركبته الحربية ويقرأ سفر اشعياء الرسول).
إنتهى نص الإنجيل.

وقيل بأن هذه الملكة هي الملكة/ الكنداكة أماني تيري، التي أكتُشِفَ قصرها بجوار جبل البركل، وتم إعلانه في العام من قبل اليونسكو عام 2003 كأحد مواقع التراث العالمي.
والذي يتحدث عنه النص ويسميه بالخصي الأثيوبي انما كان وزير مالية ملكة مروي (الكنداكة أماني تيري)، حيث كانت المنطقة كلها تسمى أثيوبيا.

هؤلاء الكوشيون هم (أصول) وأجداد أهل المكان على امتداد المنطقة من أهلنا، وبالطبع لن يتعارض ذلك مع هجرات عربية أتت من الشمال في مصر وتصاهرت مع امهاتنا (الكوشيات)، ثم طغت اللغة العربية والدين الاسلامي (الموحِّد لله) على أنقاض اليهودية التي لم تعتمر (التثليث) كما حدث للمسيحية.

اللهم أغفر لجدي خوليوت ابن بعانخي وارحمه، واغفر لجدي ود الكرسني وكل الاجدا والاباء، إنك ياربي ولي ذلك والقادر عليه.

عادل عسوم

adilassoom@gmail.com