رأي ومقالات

الصحافة الناقصة والمضللة

ذكرت الصحفية رشان أوشي للرأي العام أن جهة حكومية سيادية، دون ذكر اسمها، طلبت فواتير، تقصد بها Quotations أو Proforma Invoices (عروض أسعار أو فواتير مبدئية)، لشراء معدات أو أجهزة طبية في إطار إعادة الإعمار. ووفق ما أوردته، فإن إحدى الشركات قدمت عرضا بمبلغ 700 ألف دولار، جزمت الصحفية رشان بأنه مطابق للمواصفات وتم رفضه، في حين قدمت شركة أخرى عرضا بمبلغ مليون دولار وتم قبوله. وبناء على هذا الافتراض، تساءلت الصحفية: أين ذهبت الـ300 ألف دولار؟

المشكلة هنا لا تتعلق بوجود عروض مختلفة في القيمة أو السعر، فذلك هو أحد أهداف العطاء، بل بطريقة طرح السؤال وبناء الفرضية أمام الرأي العام. حيث جزمت بتطابق عرض الـ700 ألف دولار من حيث المواصفات، دون أن تشرك الرأي العام في الأساس الذي استندت إليه، ودون أن تورد رأي لجنة التقييم المختصة أو التقرير الفني الذي يقرر – وفق الإجراءات الإدارية والفنية والقانونية – مدى التطابق من عدمه، ثم بنت على هذا الجزم سؤالا يوحي بوجود مبلغ مفقود أو شبهة مالية ..
ومن حيث المنطق والإجراءات، يبدو الخبر ناقصا ومبتورا للأسباب الآتية:
أولا، طالما أن الجهة الحكومية طلبت Quotations، فهذا يعني بالضرورة وجود عملية شراء رسمية، غالبا في إطار مناقصة، خاضعة لقانون الشراء العام.

ثانيا، وجود مناقصة يعني تلقائيا وجود لجنة مشتريات مختصة، تعمل وفقا لإجراءات قانونية معروفة، تبدأ بالإعلان عن RFQ – Request for Quotations (طلب عروض أسعار)، وتحديد مواعيد تسليم العطاءات المغلقة، ثم عقد اجتماعات فتح المظاريف، يلي ذلك تقييم العطاءات عبر الدراسة الفنية والمالية. وتشمل هذه الدراسة مراجعة المواصفات الفنية للأجهزة الطبية المطلوبة، ومدى مطابقتها فنيا للاحتياج الفعلي، والتأكد من بلد المنشأ، والجودة والمعايير المعتمدة، وتوقيت التسليم، وشروط الدفع، وخدمات ما بعد البيع، إلى جانب مقارنة الأسعار. وهذا كله عمل مؤسسي اعتيادي للجان الشراء داخل الجهات الحكومية أو السيادية ..
غير أن خبر الصحفية خلا تماما من أي إشارة إلى رقم المناقصة، أو اسم الجهة الحكومية أو السيادية المعنية، أو طبيعة الأجهزة الطبية المطلوبة، أو التقرير الفني الصادر عن لجنة المشتريات، وهو التقرير الذي يبرر، من الناحية المهنية، سبب تفضيل عرض على آخر. وكان من الممكن، بل من الواجب صحفيا، السعي للحصول على هذا التقرير الفني، دراسته وتحليله، ثم التعقيب عليه ..

ولا يتوافق تساؤل الصحفية حول “أين ذهبت الـ300 ألف دولار” مع الواقع والمنطق !! إذ تم فعليا اختيار العطاء المقدم بمبلغ مليون دولار بحسب الصحفية نفسها، وبالتالي لا وجود لأي 300 ألف دولار مفقودة. لو تم مثلا اختيار عرض قيمته 700 ألف دولار ودفع مليون دولار له، لكان التساؤل عن أين الـ300 ألف دولار منطقيا ..
ويبدو أن الصحفية افترضت أن لجان المشتريات الحكومية
ملزمة دوماً بقبول السعر الأدنى، وأن أي اختيار مختلف يمكن اعتباره مادة صحفية، دون الرجوع إلى الاستنادات أو دراسة التحليل المالي والفني والقانوني للعطاءات. فقد ادعت الصحفية ان عرض ال 700 ألف دولار مطابق للمواصفات وتم رفضه، بينما تم اختيار عرض بمليون دولار، والمنطقي في هذه الحالة أن تكون الإجابة كامنة في التقرير الفني للجنة المشتريات، لا في افتراض وجود مبلغ مفقود. إذ إن قرارات الشراء في المؤسسات العامة لا تبنى على السعر وحده، وإنما على مزيج من الرأي الفني، والرأي القانوني، وتحليل المواصفات الفنية، ومدى توافقها مع الحاجة الفعلية.

كما أن قرار اللجنة قد يتضمن الدخول في Negotiations (مفاوضات) مع Successful Bidder (العطاء الفائز)، بهدف تخفيض السعر، أو تحسين شروط التسليم، أو تعديل آلية الدفع، سواء عبر دفعة مقدمة كنسبة من إجمالي قيمة المشتريات، أو السداد عند اكتمال التسليم النهائي للمعدات وذلك خاضع لرؤى وقدرات لجان المشتريات بالمواقع السيادية والحكومية المختلفة .

وعليه فإن جوهر الإشكال يكمن في غياب المعلومات الأساسية من الخبر الصحفي، ومحاولة تقديم الإيحاءات على أساس أنها مادة صحفية للرأي العام. وعليه، فمن حق الرأي العام أن يتساءل بذات القدر عن نهج ومنهج وخط الصحافة التي تقدم له معلومات مبتورة وناقصة وغير دقيقة ..
#المزالق_المدلهمة

بقلم / فاروق فريد