هل تتجه واشنطن لاعتماد سياسة «القوة الذكية» إزاء الخرطوم؟
لا يزال خيار استمرار العقوبات الامريكية على السودان موجودا على طاولة الرئيس الامريكي باراك اوباما، وهو قد يلجأ اليه عندما يرى تعنتا من الحكومة السودانية لاحلال السلام في دارفور أو تطبيق اتفاق السلام الشامل أو عندما تخضع ادارته لجماعات الضغط المؤيدة لأي سياسة قاسية ضد الخرطوم، لكن ذلك لا يعني- في رأي مراقبين محليين- أن الادارة الأمريكية – رغم تعبيرها منذ عام 1997 عن سياسة العصا بفرض العقوبات الاقتصادية، والخيار العسكري بقصف مصنع الشفاء للأدوية بحجة انتاج أسلحة كيميائية- أنها قد لا تدرس خيارات أخرى ازاء التعامل مع الخرطوم في المرحلة المقبلة، وربما يصبح فرض عقوبات مرنة وذكية احد تلك الخيارات وفقا لما صرح به المبعوث الأمريكي سكوت جرايشن قبل مغادرته البلاد في زيارته الأخيرة.
ويبدو استنادا الى المعلومات التي يتحدث بها سكوت جرايشن، ان بلاده تفكر في رفع العقوبات المفروضة على السودان جزئيا من أجل تسهيل وصول المساعدات الى الجنوب الذي أعلن «صيحة فجوة غذائية خطيرة» ، وقال جرايشن -عقب لقائه رئيس حكومة الجنوب سلفاكير ميارديت في مدينة جوبا الخميس- «لا نفكر في رفع العقوبات كليا في المستقبل القريب، بل نفكر في عقوبات مرنة وذكية».
ومنذ عام 1997 فرضت الولايات المتحدة الامريكية منفردة عقوبات اقتصادية على السودان وظلت هذه العقوبات تجدد سنوياً ، وفي أغسطس 1998 قصفت أمريكا مصنع الشفاء للأدوية بحجة انتاج أسلحة كيميائية، وفي سبتمبر 1998 أعلن السودان سحب بعثته الدبلوماسية من واشنطن احتجاجاً على قصف أمريكا لمصنع الشفاء، وفى نوفمبر من عام 2000 أعلنت الولايات المتحدة تمديد فترة العقوبات الاقتصادية على السودان ، كما وافق البيت الأبيض على مجموعة اجراءات يتم بموجبها شطب كل من الشركات التي لها استثمارات في السودان من بورصة الأسهم في نيويورك. وتصعيدا للتوتر فى العلاقات أودع قانون سلام السودان في السابع من اكتوبر من عام 2002 في مجلس النواب الأمريكي والذي أجازه فى العاشر من الشهر ذاته ، وفي 2002 وقع الرئيس الأمريكي جورج بوش على قانون سلام السودان.
وتقول الحكومة هنا ان العقوبات الامريكية المفروضة على السودان تسببت في تعطيل عدد كبير من أجهزة العناية المكثفة في المؤسسات العلاجية لعدم توافر قطع الغيار، خاصة الاجهزة الطبية المنتجة بواسطة شركة «جنرال الكتريك» الأمريكية.
وتتضمن العقوبات منع الشركات في السودان من استخدام النظام المالي الأميركي، كما تتضمن العقوبات اتخاذ اجراءات صارمة حيال الأشخاص المشتبه بضلوعهم في العنف بدارفور، وتشمل العقوبات أكثر من 30 شركة يتركز معظم نشاطها في مجال البترول اضافة الى أربعة أفراد ستعلن أسماؤهم في وقت لاحق، ويشتبه في علاقتهم بالعنف في الاقليم المضطرب، كما تتضمن الشركات المستهدفة شركات تعمل في قطاع البترول.
وقد أثارت ملامح السياسة الامريكية الجديدة ازاء السودان التي كشف عنها المبعوث الامريكي للسودان، ارتياحا غير مبرر من قبل الحكومة، اذ لم يفسر جرايشن ان كان قد تراجع عن موقفه بشأن العقوبات الامريكية أم لا، كما لم يشرح معنى العقوبات الذكية التي قال ان بلاده تفكر فيها، رغم أن مراقبين يعتقدون أن ادارة اوباما الجديدة قد تستبدل العقوبات الاقتصادية بسن قانون جديد مشابه لقانون سلام السودان الذي اقره الكونغرس الامريكي، والذي نص على فرض عقوبات أمريكية على السودان اذا لم يتوصل الى اتفاق سلام مع الحركة الشعبية في غضون أشهر، واستبدال سلام الجنوب في هذه الحالة بسلام دارفور.
وكانت ادارة اوباما قد أعلنت منعطفا في سياسة واشنطن الخارجية باعلانها «الافتراق عن الايديولوجية الصلبة والسياسة الانفرادية» والتي أتى بها المحافظون الجدد وصقور ادارة بوش العام 2000، مؤكدة أن «أميركا لا يمكن أن تحل الأزمات الضاغطة » في العالم» في شكل منفرد، كما لا يمكن أن يحل العالم تلك الأزمات من دون أميركا.
وفي تعريفه عن مفهوم « القوة الذكية»، قال مركز «الدراسات الاستراتيجية والدولية في الولايات المتحدة» انها هي القوة الناتجة عن دمج القوة الناعمة التي تتمثل في استثمار المكانة الأميركية وجاذبيتها عالميا «مساعدات مالية، علاقات ثنائية، التأثير في القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني»، والقوة الصلبة المتمثلة في زيادة القوة العسكرية والاقتصادية الأميركية.
وعندما أعلنت وزيرة الخارجية الامريكية هيلاري كلينتون عن ملامح سياستها الخارجية، قصدت بمصطلح القوة الذكية «مزاوجة بين المبدأ والبراغماتية، ولن تعتمد على الايديولوجية المتصلبة أو على العواطف والسياسات المتحيزة»، والانخراط والتعاون الفاعل مع الدول المؤثرة في المحيط العالمي والاقليمي، وتحسين الشراكة مع الدول المنافسة، وارساء نمط أكثر تعاونا في الأمم المتحدة لحل الأزمات، أو العمل مع الحلفاء خارج اطار المنظمة حين يعجز هذا التعاون عن تحقيق أهدافه.
ومن ذلك، يظهر أن المبدأ الذي سيحدد شكل العلاقات السودانية الامريكية، هو مفهوم «القوة الذكية» أو الاحتواء عن طريق وسائل دبلوماسية، ويقول في هذا الخصوص، رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة افريقيا العالمية الدكتور ابو حسن ياسر ان تطوير العلاقات الدبلوماسية بين البلدين يتطلب في الاساس الاسراع بمعالجة قضية دارفور.
لكن البعض لا يرى في سياسات «القوة الذكية» حيال السودان، أمرا مفرحا، ويحاجج في هذا الخصوص وزير الخارجية السابق حسين سليمان أبوصالح، بأن ما تعرض له السودان أثناء عهد الرئيس كلينتون، كان وضعا قاسيا، لكن أبوصالح يتوقع بمرور الوقت، حدوث تغيير طفيف في نظر الادارة الامريكية الجديدة ازاء البلاد، بناء على تغييرات في الاوضاع على الارض في السودان.
ويرى أبوصالح أملا ضئيلا في أن تتمكن ادارة اوباما من فهم الاوضاع في السودان بصورة افضل، ولا يستبعد أيضا ان يتعرض لضغوط اللوبي الصهيوني والمحافظين الجدد والمسيحيين المتشددين، واتخاذ المواقف الاكثر تشددا في سياسة «القوة الذكية».
من جهته، فان الأستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية الدكتور صلاح الدومة،يدعو الحكومة الى تبني الاتجاه الذي تكون فيه الافعال مطابقة للاقوال، ويضيف في حديث لـ«الصحافة» عبر الهاتف ،ان للولايات المتحدة الامريكية اهدافا معروفة ومحددة في البلاد، ويمكن للحكومة ان تجعل هذه الاهداف سببا ووسيلة لتطبيع العلاقات بين البلدين، وليست سببا للتنافر.
ويذهب أستاذ العلوم السياسية حسن الساعوري، الى ان سياسة القوة الذكية سترتبط باللوبي الاسود الذي يصور قضية دارفور بأنها صراع بين السود والعرب، داعيا الحكومة الى عدم التفاؤل كثيرا بتصريحات المبعوث الامريكي، والعمل على كيفية التعامل مع جماعات الضغط لتغيير مواقفها من الحكومة، او بالسعي لتكوين جماعات دعم مماثلة داخل الولايات المتحدة الامريكية.
لكن ما هي أسباب اتجاه ادارة الرئيس اوباما نحو سياسة «القوة الذكية» بعد تمسكها على مدى سنوات بسياسة المواجهة المباشرة وبالعقوبات أحيانا كثيرة؟
في الواقع، فان السبب الأول هو اخفاق سياسة المواجهة المباشرة والعسكرية، ويظهر ذلك في « قصف مصنع الشفاء»،« تحايل حكومة الخرطوم على العقوبات الاقتصادية» « تضرر قطاع واسع من المواطنين بسبب العقوبات الاقتصادية الامريكية».
يقول مستشار رئيس الجمهورية الدكتور مصطفى عثمان اسماعيل في سلسلة ندوات قدمها عن علاقات الخرطوم وواشنطن على خلفية تصريحات المبعوث الامريكي سكوت غرايشن بشأن العقوبات المفروضة على الخرطوم، ان الولايات المتحدة ظلت تفرض 37 عقوبة اقتصادية, الان اكتملت كل أنواع العقوبات وبالتالي عليها أن تختار خيارات جديدة، ورسم سيناريوهات محتملة لسياسات الرئيس أوباما من بينها ازاحته بطريقة ما، «الاغتيال»، أو أن تؤدي شراسة الهجمة على سياسته للعودة الى مربع الرئيس السابق جورج بوش، أو أن تنجح استراتيجية الادارة الجديدة.
ورأى أن واشنطن في مرحلة وضع استراتيجية للتعامل مع الخرطوم، داعيا الى أهمية وضع رؤية واضحة للتعاطي مع الولايات المتحدة الأمريكية خاصة مع الخطاب التصالحي ونوايا التغيير التي يختطها الرئيس الأمريكي باراك أوباما، وقال علينا الا نقف مكتوفي الأيدى وأن نتجاوب مع سياسات وتوجهات أوباما حتى تتضح معالمها عبر انتهاج مبدأ الحوار.
وربط اسماعيل حدوث اختراق في علاقة البلدين بما وصفها بمحددات السياسة السودانية تجاه الولايات المتحدة التي تشمل عدم استغلال المحكمة الجنائية كآلية للضغط واتخاذ مبدأ الحياد كحد أدنى، ولعب دور ايجابي من قضية تنفيذ اتفاقيات السلام والتحول الديمقراطي، واتخاذ موقف يعبر عن الشراكة في أزمة دارفور وصولاً لحلها، ورفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للارهاب، وعدم استخدام الولايات المتحدة نفوذها في المؤسسات الدولية لفرض عقوبات على البلاد.
ويخلص محللون من كل ذلك، أن الاوضاع تتهيأ لمنهج جديد في تعامل الولايات المتحدة الامريكية مع الخرطوم، ولكنه ليس موقفا جديدا، فما زال موقف جماعات الضغط الرئيسية في واشنطن من حكومة المؤتمر الوطني لم يتغير، ومعنى هذا، أن هذه المجموعات ما زالت تعارض أي تحول في سياسة واشنطن تجاه الخرطوم، اذا كانت ستؤدي لاستمرار للحكم في البلاد العربية والاسلامية. وهذا المنهج الجديد ربما لا يستمر، ويتم العودة الى المواجهة والعقوبات، سواء بسبب الضغوط التي يمكن أن تتعرض لها الادارة الأمريكية من المؤسسات والقوى الأمريكية الحاكمة، أو من الضغوط التي يمكن أن تتعرض لها من قبل الاطراف الحليفة لها في البلاد مثل الحركة الشعبية، والتي تريد ربط أي تحول في علاقات البلدين بقيام المؤتمر الوطني بتنفيذ اتفاقية السلام الشامل، وضمان اجراء حق تقرير المصير ومعالجة تحفظات الحركة على نتائج الاحصاء السكاني، ويعتبر الهجوم الذي تشنه قيادات الحركة الشعبية على المؤتمر الوطني مؤخرا استباقا لأي تغيير في اتجاه الادارة الأمريكية نحو الخرطوم.
خالد سعد : الصحافة
رفع العقوبات الاقتصادية عن السودان مبادرة من الحكومة الامريكية لتجميل صورتها في العالم خاصة ان المنظمات العالمية والتي تعمل في مجال حقوق الانسان في مناطق السودان المختلفة قد تضررت منها .