بيانات ووثائق

السـودان عـلى حافة الهاوية (1)

أصدر الدكتور فرانسيس دينق مساعد الأمين العام للأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية،ووزير الدولة للخارجية الأسبق مؤخرا كتابا جديدا موسوم بـ»السودان على الحافة» يحمل رؤى حول مشاكل الوحدة والانفصال والهوية السودانية،وقضايا المهمشين، وتشكر «الصحافة» مدير مركز دانا للخدمات الإعلامية الزميل عادل أحمد إبراهيم الذي أهداها نسخة من الإصدارة الجديدة التي تترجمها الصحيفة وتنشرها تعميما للفائدة..
تقديم: بروفسور كيفين كاهل*
التقيت بفرانسيس دينق قبل خمسين عاماً عندما كنت أعمل طبيباً صغيراً في جنوب السودان. وحتى ذلك الوقت كانت المنطقة منطقة حرب، فأعداد كبيرة من المدنيين قتلت وهدد مجتمع عريق بالدمار، وشاهدت أيضاً النضال الشريف من أجل التفاهم والمصالحة والسلام متجسداً في عمل فرانسيس دينق الحي. وظللت على مدى عقود على اتصال لصيق بالسودان حيث عدت لمتابعة البحوث الطبية والإغاثة الانسانية وبرامج التدريب. وعلى طول هذه المدة كان فرانسيس دينق ناصحاً حكيماً ومثابراً وهو يعينني على فهم القوى السياسية المشوهة والمعقدة وآثارها على الشمال والجنوب على السواء.

إن عيون العالم مركزة الآن على السودان لا بسبب الأزمة المأساوية في إقليم دارفور فحسب ولكن بسبب الوضع المتقلقل في الجزء الجنوبي من البلاد أيضاً، فبعد نصف قرن من الزمان شهدت البلاد خلاله حربين بين الشمال والجنوب (1955 – 1972م) و(1983 – 2005م) توصلت حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان إلى اتفاقية السلام الشامل في 2005م نتيجة مفاوضات طويلة لعبت فيها بلدان المنطقة والمشاركون الدوليون دوراً محورياً في الوساطة.
وقد منحت الاتفاقية أهل الجنوب ممارسة حق تقرير المصير من خلال استفتاء بعد فترة ست سنوات مؤقتة تبذل الجهود خلالها لجعل خيار الوحدة جاذباً للجنوب. ويعتقد بشكلٍ كبير أن من المحتمل أن يصوت الجنوب للانفصال مع ما تبقى من أشهر للاستفتاء في يناير 2011م. وبغض النظر عن حالة إرتريا، فإن هذا سيجعل السودان أول بلد إفريقي يتم تقسيمه، الشيء الذي يعتبر انحرافاً راديكالياً من المبدأ المقدس لمنظمة الوحدة الإفريقية وخليفتها الاتحاد الافريقي الذي أسس لصالح الحفاظ على الحدود الاستعمارية. ولكن الاستقلال الإرتري من إثيوبيا يبرر دائماً على أساس أن إرتريا كانت في زمن الاستعمار دولة مستقلة من إثيوبيا التي ضمت إليها لاحقاً باعتبارها محمية ومن ثم تم دمجها فيها أخيراً.

يعتبر السودان جغرافياً أكبر قطر في إفريقيا وله أهمية خاصة بالنسبة للقارة نسبة لثراء تنوعه الذي يربط إفريقيا جنوب الصحراء بشمال إفريقيا والشرق الأوسط وتكوّنه من كل عوامل الهوية في القارة، أي عوامل العنصر والعرق والدين والثقافة ـ وهو بلد موهوب بموارد طبيعية وفيرة ليست مهمة لاحتياجات شعبه فحسب بل للمنطقة كلها وللمجتمع الدولي الأكبر أيضاً. ورغم أن الاحتياطات النفطية المربحة التي اكتشفت اخيراً جذبت اهتمام كبار المستهلكين العالميين ورفعت صورة البلاد عالمياً لكن نجد أن الأراضي الزراعية الشاسعة والامدادات المائية الجمة في السودان ظلت لمدة طويلة محطَّ الأنظار بحكم أنها توفر سلة غذاء كامنة لشمال إفريقيا والشرق الأوسط.
وتعتبر البلاد غنية بالثروة الحيوانية ـ وهي أيضاً ذات فائدة كبيرة للشرق الاوسط ـ وبالمعادن التي لم تنقب بعدُ تنقيباً كاملاً وكان استغلالها أقل كثيراً. إذن السودان بلد قسمته عالية ــ في الاتجاهات المتعاكسة ــ فقصة النجاح يمكن أن تجعل له أثر ايجابي في إفريقيا والشرق الأوسط بل والمجتمع الدولي الأوسع، وعلى النقيض من ذلك تمزقه وفشله يمكن أن تكون لهما آثار مدمِّرة داخلياً وإقليمياً وأبعد من ذلك.

في هذا الكتاب الموجز والشامل في آنٍ معاً يقدم فرانسيس دينق تحليلاً خلاقاً للوضع يهدف لمعالجة وحسم المعضلات المعقدة التي تواجه السودان وإفريقيا والمجتمع الدولي حول الخيار الحاسم الذي يتخذه الجنوب في يناير 2011م، فهناك إجماع على وجوب تنفيذ اتفاقية السلام الشامل بإخلاص وإجراء الاستفتاء بمصداقية والاحترام الكامل لخيار أهل الجنوب.
وعلى أية حال هناك قلق بالغ حيال تقسيم البلاد والآثار المترتبة لا على السودان فقط بل على القارة الإفريقية جمعاء وعلى المجتمع الدولي. فالمجتمع الدولي ـ باللغة المادية ـ استثمر سلفاً البلايين في المساعدات الإنسانية للسودان وأن الامم المتحدة والاتحاد الافريقي يقران عمليتين كبيرتين لحفظ السلام في الجنوب ودارفور، فما لم يتم إجراء الاستفتاء الجنوبي ونتائجه بعناية وبصورة بناءة سيُواجه المجتمع الدولي بأزمة أخرى ذات عواقب إنسانية ومالية بالغة.
هذا الكتاب يعتبر بياناً قوياً أعده شخص يعتريه قلق بالغ حيال محنة شعبه ومصير بلاده وهو رجل يرمز بطرق كثيرة للطموحات السامية للوحدة التي ينظر فيها للتنوع باعتباره مصدر ثراء لا صراعا مدمراً ووحدة مساواة كاملة بين كل مواطنيها.

ينحدر فرانسيس دينق من منطقة أبيي في الحدود الشمالية/ الجنوبية التي لعب فيها أجيالٌ من أجداده ـ بحسبانهم زعماء كبار ـ دوراً تجسيريا محورياً بين الشمال الجنوب في مشاركةٍ مع نظرائهم من عرب المسيرية، فوالده الراحل الناظر دينق مجوك زعيم دينكا نقوك ومعه ناظر عرب المسيرية بابو نمر مازال يشار إليهما باعتبارهما قدما أنموذجاً للتعايش الأخوي والتعاون الودي على نطاق الاختلاف العنصري والعرقي والثقافي والديني، وهو أنموذج تحتاج إليه البلاد لكي تعزز السلام الدائم والوحدة الوطنية.
ورغم أن دينكا نقوك في أبيي هم جنوبيون بكل المقاييس لكن منطقتهم ظلت تدار باعتبارها جزءاً من الشمال، الشيء الذي منحهم وضعاً مواتياً خاصاً خلال الحقبة الاستعمارية، بيد أن الاستقلال أربك التوازن الدقيق الذي حافظ عليه البريطانيون لإرضاء الدينكا. وقد انضم دينكا نقوك لأقاربهم في الجنوب في كلتا حربي التحرير وذلك ردَّ فعل لوضعهم الثانوي الذي يعاني من الحرمان وسط العرب. إن بروتوكول أبيي المضمن في اتفاقية السلام الشامل يمنحهم الحق ـ عبر استفتاء يجري متزامناً مع الاستفتاء الجنوبي ـ أن يختاروا البقاء في الشمال أو الانضمام للجنوب. وعلاوة على الخلفية القيادية لأسرته، كرّس فرانسيس دينق معظم شبابه في البحث عن السلام والوحدة في بلاده، ولم يفعل ذلك فقط في دوره الدبلوماسي الذي عمل فيه سفيراً لبلاده في كثير من المناصب المهمة ووزيرا للدولة للشئون الخارجية بل أيضاً عبر أعماله العلمية والأدبية المشهورة في منشوراتٍ عديدة. لقد عمل فرانسيس ممثلاً للسكرتير العام لشئون النازحين لمدة اثني عشر عاماً وهو يعمل الآن مستشاراً خاصاً للسكرتير العام لمنع الإبادة الجماعية وهو منصب يشغله على مستوى وكيل السكرتير العام.

يمثل هذا الكتاب شهادة مختصرة لجهدٍ طويل يتصف بالتواضع والإخلاص للغير لقضية السلام في السودان. لقد ظل فرانسيس مؤمنا إيماناً قوياً بوحدة بلاده ولكنها وحدة يجب أن تبنى على المساواة الكاملة لكل أهلها، وحدة تعطي كل السودانيين شعوراً بالانتماء مع الفخر والكرامة وعلى قدم المساواة، وحدة تعمل سياستها الخارجية لمصالح الأمة بالتواصل مع البلدان الإفريقية والعربية والمسيحية والمسلمة في المجتمع الدولي من أجل المشاركة والتعاون المفيدين بصورة مشتركة. ولكن لسوء الحظ أن السودان فشل حتى الآن في بلوغ هذه الرؤية السامية: فإذا اختار الناخبون الوحدة فيجب تنفيذها بأسلوب أكثر مساواة مما كان عليه في الماضي، وإذا اختاروا الانفصال يجب أن تكون عملية الانفصال سلمية ومنسجمة بقدر الإمكان على أن يعمل كلا الشمال والجنوب لتأسيس إطار للترابط والتعاون اللصيقين مع ترك الاحتمال مفتوحاً لإعادة التوحد إذا خلقت الظروف الملائمة.
هذا كتاب يجب أن يقرأه كل أولئك المهتمين بالتطورات الحادثة في السودان في هذا المنعطف الخطير من تاريخ البلاد. ومهما كان القرار الذي سيتخذه السودانيون في استفتاء يناير 2011م فمن الضروري أن يكون خياراً يوازن بعناية آثار الانفصال في مقابل الوحدة. ومن المحتمل أن تناقش هذه الخيارات العويصة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وستدرس أيضاً بعناية في منابر أخرى متعددة حيث ينظر في مستقبل العمل الإنساني وحفظ السلام والتنمية.

لقد حشد كثيرٌ من الناس القوى ليجعلوا هذا الكتاب متاحاً باعتباره بؤرة مركزية لهذه المناقشات. فرئيس جامعة فوردهام جوزيف ماكشين ونائب الرئيس الضابط الأكاديمي إستيفن فريدمان وعميدة مدرسة خريجي الفنون والعلوم نانسي بوستش لهم جميعاً عميق امتناني لالتزامهم بإخراجه السريع. كما أن مستر فريدريك ناشبور مدير مطبعة جامعة فورهام وموظفيه استنفدوا الليالي وعطلات الأسبوع ومهاراتهم المهنية لضمان أن يكون الكتاب متاحاً في الوقت المناسب لمناقشته في الاتحاد الإفريقي وداخل الدوائر المعنية الأخرى. وأخيراً أود أن أقر بالامتنان لبرندان كاهل وموظفي الشئون الإنسانية الدولية بجامعة فوردهام.
يعتبر كتاب «السودان على حافة الهاوية» هو السفر التاسع في سلسلة كتب معهد الشئون الإنسانية الدولية وهو مساهمة مهمة لبرامج تدريسنا المكثفة. هذا الكتاب وجد الدعم السخي من مركز التعاون الإنساني الدولي.

* مدير معهد الشئون الإنسانية الدولية، جامعة فوردهام
مقدمة
بعد سنين من المفاوضات الطويلة ـ مع الوساطة الإقليمية والدولية ـ توصلت حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان إلى اتفاقية سلام شامل. وتلقت التسوية ردوداً مختلفة في الداخل والخارج حيث قابلها الجنوبيون بابتهاج لأن الاتفاقية منحتهم حق تقرير المصير الذي تتم ممارسته بعد فترة مؤقتة قدرها ست سنوات وذلك عبر استفتاء يمنح الخيار بين الوحدة والانفصال. ولكن الشماليين عموماً شعروا أن اتفاقية السلام الشامل أعطت الجنوب الكثير جداً بمنحهم حكماً ذاتياً كاملاً ومشاركة كبيرة في حكومة الوحدة الوطنية فضلاً عن الاستقلال بعد ست سنوات. أما المجتمع الدولي فقد أحس بالراحة لأن الحرب التي كانت تثور بين الفينة والأخرى على مدى نصف قرن قد انتهت في النهاية. وفي الوقت الذي ظل فيه تقسيم البلاد المحتمل موضوع اهتمام لكن الشرط الذي يقول إن الجهود ستبذل لجعل الوحدة خياراً جاذباً للجنوب كان موضعاً للتفاؤل بأن السودان سيبقى دولة موحدة.

كان تنفيذ اتفاقية السلام الشامل مشحوناً بالصعوبات والخلافات ربما بسبب المفاوضات حول الاتفاقية التي ينظر إليها كلا الطرفين بأنها كانت نتيجة الضغوط الخارجية أكثر من كونها تعبيراً حراً للإرادة الوطنية. لقد كانت أحزاب المعارضة في الشمال التي تم إقصاؤها في المفاوضات معادية للاتفاقية، بل حتى أعضاء حزب المؤتمر الوطني الذي فاوض الاتفاقية لم يكونوا متحدين في قبولهم لاتفاقية السلام الشامل. أما المناطق الحدودية الثلاث وهي أبيي والنيل الأزرق وجنوب كردفان التي كانت مواضيع بروتوكولات خاصة نجدها تشكل تحدياتها الخاصة بحكم موقعها بين الشمال والجنوب. فبروتوكول أبيي أعطى الناس الحق أن يقرروا في استفتاءٍ يُمارس متزامناً مع الاستفتاء الجنوبي ما إذا كانوا سيبقون جزءاً من الشمال أو ينضمون للجنوب. ولكن الاختلافات ظلت باقية حول حدود المنطقة التي حددتها بدءاً مفوضية حدود أبيي التي رفضت نتائجها حكومة المؤتمر الوطني على أساس أن مفوضية حدود أبيي تجاوزت تفويضها. وقضت في النزاع لاحقاً محكمة تحكيم خاصة في لاهاي لكن لم ينفذ قرارها. إن هذه المنطقة التي يشار اليها مفارقةً بأنها منطقة أبيي الغنية بالنفط لا تعكس دليلاً على وجود الثروة النفطية وأن نسبة الـ 2% من العائدات النفطية المنتجة في المنطقة ــ والتي يخصصها بروتوكول أبيي للمنطقة ــ لم تتح لأهل أبيي وأن الكمية المطلوب تحويلها إلى إدارة أبيي بموجب الميزانية القومية المنتظمة ظلت موضع تساؤل. ويدعو بروتوكول المنطقتين الأخريين للمشورة الشعبية لتقرر فيما إذا كانت الترتيبات الخاصة التي نصت عليها اتفاقية السلام الشامل مقبولة للمواطنين. لقد أثارت مادة المشورة الشعبية بغموضها خلافات وتفسيرات متضاربة تتراوح من درجات تقرير المصير داخل الشمال إلى الاختيار بين البقاء جزءاً من الشمال أو الانضمام للجنوب.

كان واحداً من أوجه مشاكل تنفيذ اتفاقية السلام الشامل هي أزمة دارفور المعقدة، ففي الوقت الذي كانت تمضي فيه مفاوضات اتفاقية السلام الشامل ووصلت فيه نقاطاً حساسة خشي المجتمع الدولي من احتمال أن تكون مشكلة دارفور انصرافية لذا قرر أن يعطيها أولوية أدنى. ومع انتهاء اتفاقية السلام الشامل وتصاعد الأزمة في دارفور إلى مأساة ذات أهمية بالغة انصرف الاهتمام إلى دارفور ونزلت اتفاقية السلام الشامل إلى أولوية أدنى، بل حتى تعهدات دعم مؤتمر أوسلو التي قررت منح جوائز السلام إلى الجنوب لم تنفذ أبداً.
في الوقت الذي تم فيه إقرار السلام إقراراً مهزوزاً تحت اتفاقية السلام الشامل برهنت البنود المختلفة المتعلقة بقسمة السلطة وقسمة الثروة والترتيبات الأمنية والإحصاء وترسيم الحدود وإجراء الانتخابات على أنها بنود خلافية تعكس ارتيابا عميقاً بين طرفي الاتفاقية، فبالنسبة للجنوب أصبح التحدي هو كيف تتم حماية اتفاقية السلام الشامل من الانهيار وحرمان أهل الجنوب من أغلى إنجاز لهم بموجب الاتفاقية، أي حق ممارسة تقرير المصير. وبدا الشمال متأرجحاً بين مقاومة وتعرية بنود الاتفاقية التي تليق بالجنوب وتجنب العودة إلى الحرب. وبدا معظم المراقبين مقتنعين بأن اتفاقية السلام الشامل لن تحترم حق تقرير المصير بالنسبة للجنوبيين برغم التصريحات الخطابية التي تطلقها القيادة بما يشير إلى العكس. وللمفارقة، ورغم أن الحفاظ على الوحدة اعتبر ذا أهمية كبيرة خاصة للشمال لكن لم ينجز ما يكفي لجعل الوحدة جاذبة للجنوب. وأثار هذا الشكوك في دوائر معينة بما فيها دوائر داخل الشمال بأن اتفاقية السلام الشامل ساندت الانفصال الجنوبي ليخلِّصوا أنفسهم من العنصر غير المسلم الذي كان يشكل عقبة أمام تنفيذهم «للأجندة» العربية الإسلامية. ورأى المتشائمون أن اتفاقية السلام الشامل لم تكن قلقة حيال الانفصال لأنهم لم ينووا تنفيذ بنود تقرير المصير بأي طريقة.

مع اقتراب انتهاء الفترة المؤقتة، بدأت المنطقة الإفريقية والمجتمع الدولي يأخذون مأخذ الجد التداعيات المحتملة لممارسة تقرير المصير الجنوبي. وكلما أبدى المجتمع الدولي العزم لدعم التنفيذ الكامل لاتفاقية السلام الشامل بما في ذلك إجراء استفتاء تقرير المصير في إطار الجدول الزمني المتفق عليه وطالما أصبح واضحاً أن الوحدة لم تكن جاذبة وبدا أن الانفصال هو النتيجة الأكثر احتمالاً، كلما بدأت المخاوف حيال التداعيات السلبية لتقسيم البلاد تجد اهتماماً وقلقاً أكبر.
بدأت بعض الشخصيات الإقليمية والدولية القيادية تتساءل من الحكمة وراء السماح بانفصال الجنوب الذي أصبح ينظر اليه كارثة محتملة على الجنوب نفسه وعلى السودان قاطبة ومنطقة شرق إفريقيا وعلى قارة إفريقيا. لقد كانت نواقيس الخطر تتناغم كثيراً مع ما ظل يتحدث عنه الشمال دائماً بأن الجنوب لم يكن مؤهلاً للاستقلال، ذلك أنه بدون الصراع الموحد مع الشمال فإن الحرب بين القبائل ستمزق المنطقة وتخلق الفوضى التي لن تعرِّض السودان وحده للخطر بل المنطقة برمتها. وفي الواقع إن الصراعات القبلية المتصاعدة في الجنوب التي ينسبها الجنوبيون جزئياً إلى المكائد الشمالية برهنت على أنها نبوءة شمالية تحققت ذاتياً.

لقد تبنى بعض القادة الأفارقة الحازمين انتقاداً تعديلياً لبنود اتفاقية السلام الشامل المتعلقة بتقرير المصير باعتبارها مثالاً سيئاً لإفريقيا وستفتح (علبة بندورا) الحركات الانفصالية على القارة.
ازداد الجدل حول احتمالات الوحدة مع اقتراب موعد استفتاء تقرير المصير في يناير 2011م، وللمفارقة أنه حتى الخرطوم بدأت تطلق حملة عبر البلاد للمحاولة المتأخرة لدعم قضية الوحدة، فقد شرعت الحكومة في إطلاق مشروعات تنمية في الجنوب في محاولة لجعل الوحدة جاذبة. وفي الوقت الذي يبدو فيه من المتأخر عن أوانه أن يكون لهذه الجهود أثر كبير على موقف معظم الجنوبيين لكن ليس من المتأخر عن أوانه مناقشة مزايا الوحدة وما إذا كان تقرير المصير متوافقاً مع الحفاظ على الوحدة الوطنية.

يهدف هذا الكتاب إلى المساهمة في تلك المناقشة بمفهوم جديد للوحدة لتظل هدفاً دائماً مهما كانت نتيجة استفتاء 2011م في الجنوب. فمهما كان قرار الجنوب حول قضية الوحدة أو الانفصال سيظل جزءا البلاد في ذات الجوار الجغرافي وسيظلان يتفاعلان بل سيصبحان بمختلف الطرق معتمديْن على بعضهما أكثر من ذي قبل. وكل هذا يعني أنه ستكون هناك بلا شك عناصر مهمة للوحدة وراء الانفصال، فالوحدة والانفصال يمثلان درجات من العلاقة، فالتحدي بالنسبة للشمال والجنوب يكمن في صياغة الترتيبات التي ستوفق بين الانفصال وتحديات الوحدة الماثلة. بعد هذه المقدمة يبدأ هذا الكتاب بنظرة شاملة موجزة للوضع مع تركيز على طموحات الوحدة الوطنية. ويعقب ذلك بيانان حول المواضيع ذات الصلة: أولهما كان خطاباً في عام 1989م موجهاً إلى منبر قضايا السلام الذي نظمته ثورة الإنقاذ الوطني الوليدة التي استولت على السلطة قبل ثلاثة أشهر، ومن بعد خطابٌ رئيس في عام 2009م موجَّه لندوة نظمت برعاية مشتركة من جانب بعثة الأمم المتحدة في السودان «يونميس» حول تقرير المصير والوحدة الوطنية. وأعقبت هذين البيانين مذكرة حول الوضع كتبتها بُعَيْد عودتي من الندوة. وطالما أن المفاوضات تشكل تحدياتٍ ماثلة لمعالجة مجموعة الصراعات في السودان فقد ضمنت في الكتاب فصلاً بعنوان «عشرة مبادئ حول التفاوض»، وانتهى الكتاب بخاتمة موجزة تضع نبرة تفاؤلية حول رؤية سودانٍ جديد باعتباره أساساً مشتركاً لصياغة الوحدة وراء الانفصال المحتمل من خلال الاستفتاء.
غنيٌّ عن القول أنني أعددت هذا الكتاب بصفتي الشخصية لا بصفتي مستشاراً خاصاً للسكرتير العام للأمم المتحدة حول منع الإبادة الجماعية، ووفقاً لذلك فإن الآراء الواردة في الكتاب هي كلها آرائي ولم يشترك معي فيها بالضرورة السكرتير العام أو الأمم المتحدة كما لا تعكس هذه الآراء موقف الناشرين.

صحيفة الصحافة

تعليق واحد

  1. لازم يلقى الكتاب الكثير من السند والمعاونة والاهتمام لانو ضد السودان عموماً ويكفى اسمة الذى يشعرك بان السودان انتهى فالكيد للسودان يتجلى كل يوم فى جميع المناحى والله العظيم دا الحاصل والا فلماذا لم تنشر كتب اخرى يمكن ان تكون اكثر ثراءاً وفائدة عن السودان من هذا الكتاب