ثقافة وفنون

مصطفى سيد احمد .. روح في الجسد السوداني

الانسان هو الانسان كيفما خلق وحيثما وجد يخرج من ظلام قوقعة الرحم عاريا إلى مسرح الحياة ليلعب دوره ويظل مراقبا من الجميع الى أن تحين ساعة موته حيث يرجع في نهاية المطاف الى ظلام قوقعة القبر وما بين الميلاد والموت يبقى صدر الانسان هو مسرحه الخاص الذي يقوم فيه بلعب دوره في الحياة وتشخيص ذاته كيفما تمليه عليه النفس حيث تقوم بكتابة النص والحوار والسيناريو حسبما تهوى وتشتهي ويبقى العقل حرا في وضع التخطيط وما يلزم الأخراج من ديكور وموسيقى واضاءة وارشادات وحينما ينتهي العرض يرجع المتفرجون والمشيعون إلى مسرح الحياة ويبقى المسرح خاويا إلا من اثار الاقدام ويبقى الجسد هامدا في قبره الابدي وهكذا رحلة حياة كل انسان تنقضي بين ليلة وضحاها ومنهم من يموت وتقبر ذكراه معه بعد حين من الزمن وقد لا يحفل الناس بذكراه إلا لفتره وجيزة ومنهم من يمضي وتبقى ذكراه عالقه بأذهان الكثيرين وتظل الذكرى والذكريات من المفردات المحببه لكل السودانيين رمزا للتواصل والوفاء وها هو الشاعرعمر الطيب الدوش يحتفي بالذكرى في قصيدته سحابات الهموم ليتغنى بمفرداتها الرائعة الراحل مصطفى سيد احمد :
سحابات الهموم يا ليل بكن بين السكات والقول
وباقات النجوم الجن يعزن في المطر فاتن عزاك رجعن
شوق رؤياك زمان مشدود على أكتاف خيول هجعن
وصوت ذكراك رزاز صفق على خطوات بنات سجعن
ولولا الذكرى مافي اسف ولا كان التجني وقف
ولولا الذكرى ما في أصول ولولا الذكرى ما في وصول
ونحن حينما نقف امام الذكرى السنوية السادسة عشر لرحيل الفنان مصطفى سيد احمد لابد ان نذكر ذلك التوهج الانساني العظيم الذي سرى في دواخلنا فنا صادقا ومعبرا عن كل ما تزخر به حياة الشعب السوداني من نبل وكرم وحزن وفرح ووجع والم, فكانت حياته على قصرها عامرة بالحب والعطاء الانساني اللا محدود وهي أشبه ما تكون باسطورة طائر الشوك التى تقول بان الفرح العظيم لابد أن يولد على اثر مخاض عظيم …وتقول الأسطوره ان طائر الشوك يطير مرة واحدة في حياته حينما يترك عش أمه ويجوب العالم كله بحثا عن أكبر الاشجار الشوكية في العالم في أعلى القمم وحينما يجدها يرك عليها و يلصق صدره باطول شوكة في الشجرة ويتركها لتنفذ من خلال صدره ثم يبدأ بالغناء الشجي الذي تفوق روعته كل الألحان وحينها يدب السكون في العالم وتدخل السكينة لقلوب كل المخلوقات وتسري المسرة و يعم الفرح ارجاء الكون الفسيح وقتها تكون الشوكة قد نفذت من خلال صدر الطائر المغرد مقدم روحه قربانا لاجل سعادة كل الكائنات .
6874 هكذا قضى مصطفى سيد احمد آخر سنين عمره يصارع الالم والمرض والغربة عن الوطن نبلا وجلدا وصبرا إيمانا بقضاء الله وقدره وفي الوقت ذاته كان يغرد باروع الالحان والكلمات إلى ان وافته المنيه في الدوحة بعيدا عن الديار التى طالما احبها وتغنى لشعبها ورحل من هذه الفانيه وفي قلبه ذلك الحلم الكبير بان يتحقق السلام وتسري المسرة بين اهله وتسكت اصوات المدافع ويرجع الوطن إلى سابق عهوده متوحدا وجميلا (بكل اسف تمر هذه الذكرى والوطن قد إنشطر نصفه الجنوبي) .
شكل مصطفى سيد احمد حضورا مهما في اول ظهور له كفنان واعد إبان فعاليات مهرجان الثقافة الاول في اواسط السبعينات من القرن الماضي ومنذ بدايته جاء مجددا وليس مقلدا حيث كانت اول اعماله من كلماته والحانه وآدائه وقد ادرك كل من كان لصيقا بهموم الادآب والفنون والابداع الثقافي, في ذلك الوقت , أنه يقف امام موهبة لم تاتي من فراغ لتقدم فنا مبتذلا وإنما امام إنسان جاء منذ البداية ملتزما بقضية الابداع الثقافي واهميته القصوى ورسالتة لبث الروح في جسد الامة السودانية وصياغ وجدانها الذي كاد وقتها ان يهلك ويتداعى ثم يتمزق ويتلاشى مع بدايات ثمانينات القرن الماضي , وبحكم ان مصطفى كان معلما وشاعرا ورساما لم يغب عنه الوقوف على حضارة نبتة ومروي والممالك المسيحية ومملكة سنار وكل ذلك التلاقح الفريد الذي تم عبر التاريخ بين شعوب وادي النيل الافريقية وتلك الروافد الثقافيه التي كانت تنساب من الجزيره العربية وشمال غرب افريقيا مما نتج عنه تلك اللوحة الفسيفسائية ذات الالوان المتنوعة والمتناغمه والتي عرفت فيما بعد بالسودان .
إنطلاقا من هذا المخزون الفكري الثر اطل مصطفى سيد احمد على ساحة وخارطة الغناء السودانية وهو يدرك تماما حجم المسؤولية وكأنه يقول لنفسه ان من يريد ان يعتلي خشبة المسرح ليغني بعد ابو داؤود واحمد المصطفى وعثمان حسين وابراهيم عوض وعائشة الفلاتية والعاقب محمد الحسن عليه أن يفكر ألف مره قبل أن يجهر بصوته, ولكن مصطفى اعتلى مسرح ساحة الغناء السوداني واصبح علامة فارقه قبل وبعد مماته .
وامتدادا للموجة الجديدة من شعراء الحداثة في السودان امثال محمد المكي ابراهيم والمجذوب ومحى الدين فارس وغيرهم جاء على اثرهم شعراء اكثر حداثة امعنوا في رمزية الغناء الشعري حيث ظهرت مفردات لم تكن مألوفة من قبل في الشعر السوداني أمثال هاشم صديق و عمر الطيب الدوش وعبد العزيز العميري مرورا بصلاح حاج سعيد ويحيى فضل الله وبشرى الفاضل وقد قطف مصطفى سيد احمد كلمات اغانيه من تلك الحدائق الشعرية الابداعية وقد كان يبحث دوما عن الكلم الرفيع ويكتشف الشعراء من خلال بحثه المستمر فأنت حينما تسمعه يغني كل تلك المفردات تجد نفسك امام مغن يغوص في اعماق دواخلك وينفي عنك خصوصية الفرد ويحيلك الى وجدان امة بحالها ليفتح لك الفضاء الفسيح مع الطيور التي لا تعرف المرافئ ولتعيش مع الطلاب في المدارس والجامعات وتقتسم اللقمة مع البسطاء من الزراع والعمال والرعاة وكافة شرائح المجتمع وكان أهم ما يميز تلك الاشعار والمفردات ويزيدها جمالا وبعدا فلسفيا كونها كتبت باللغة العامية السودانية البسيطة والنافذة :
يالعبد الشقي ما اتعود شكي
لكن الكفاف فوقك متكي
والسوق فيك يسوق حالك ما بتسر
الا كمان في ناس فايتاك بالصبر
(حميد)
كان مصطفى طوال حياته الفكرية والابداعية مهموما بالانسان حيثما كان خاصة ابناء شعبه ولذلك جاء خطابه الغنائي صريحا وواضحا وشفافا وعميقا ضد الظلم الإجتماعي وجبروت الأقوياء على الضعفاء :
قل للذين يوزعون الظلم باسم الله في الطرقات
في صفوف الخبز والعربات والاسواق والقرف الدمار
البحر يا صوت النساء الامهات
القحط يا صمت الرجال
الله حي لا يموت
ان العمارات استطالت اغرقت اطفالك الجوعى
على وسخ الرصيف
(الصادق الرضي)
ولم ينس مصطفى البعد الانساني والجهادي وتغنى لاطفال فلسطين بكلمات نزار قباني :
بكيت حتى انتهت الدموع
صليت حتى انطفأت الشموع
ركعت حتى ملني الركوع
سالت فيك عن محمد وعن يسوع
مهما هم تأخروا لكنهم يأتون
من درب رام الله او من جبل الزيتون
وكما احدث السياب ثورة في مفردات الوصف الشعري حيث قال:
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
هاهو ازهري محمد علي يوغل في الواقعية الرمزية السحرية ويغني له مصطفى :
الصباح الباهي لونك
وضاحة يا فجر المشارق
غابة الابنوس عيونك
يا بنية من خبز الفنادك
امسك مصطفى سيد احمد بيد الحبيبة الوطن ليطرد عنها الخوف ويدعوها للصمود والصبر والتفاؤل ليتغنى بكلمات قاسم ابو زيد مبشرا بقدوم الخير والافراح التي طال انتظارها :
وهجك شوارع ذاتي في ليل اليباب
ما تخافي من دم الغروب لو رتش اللوحة الضباب
ما دام ضميرنا الفينا حي
مادام عريق العشق حي
ملحوقة يا مدن السراب
ما تشفقي العطش الرحيل
النيل ركيزة ودمعة الاحباب سحاب
المتأمل لاعمال مصطفى الغنائية يجد انه كان دقيقا جدا في اختياره للنص حسب منظوره وحسه الثقافي العالي ومساره الانساني المتميز لذلك تجده تطرق للعديد من الزوايا الانسانية منتقيا مفرداته من نخبة من الشعراء المستنيرين كما اسلفنا وحلق بكلماتهم في فضاءات فسيحة مضيفا اليها ابعادا انسانية عميقة بلغ بها اقصى درجات المعنى والايضاح وحين تسمعه يراودك احساس غامر بان الجميع هم أصدقاؤك و يلتفون حولك ليشاركونك الفرح والحزن على السواء :
نافرة زي صيد الخلا
وساقية زي نبع المنابع
حلوة عينيك زي صحابي عنيدة كيف
تشبه شريحتين من شبابي
زي عنب طول معتق في الخوابي
وسمحة زي ما تقول ضيوفا دقوا بابي
فرحي بيهم سال ملا حتى الكبابي
(بشرى الفاضل)
ان المتتبع للشعراء الذين غنى لهم مصطفى لابد ان يلاحظ كانما هناك علاقات حميمة تجمع بين كل شاعر واخر
وكأن افاكارهم على تنوعها متوحدة ومنسجمة وكأنهم جلسوا جميعا ابتداء من هاشم صديق والنخلي وانتهاءا بجمال حسن سعيد وخطاب حسن احمد في ليلة قمراء في احدى ليالي الصيف المترعة بالجمال والضياء ليسطروا أحلام وامال وسائر هموم وقضايا الشعب السوداني الجوهرية وهاهو قاسم ابو زيد ينادي بعودة الوطن ويحلم بالحرية :
ارجع تعال يا شليل درع الاميرة سرق
سوهو حدوة خيل بحر العطاشى نشف
نشرب بواقي السيل
صد لملامحك يا حراز ريح العوارض قربت
فرتق ضفايرك في الرزاز
جيت العصافير قربت
ويرد عليه محمد طه القدال :
شليل ارضنا يا جنيات
شليل قايم نصاصي الليل يتمتم ليلو وردية
حرازنا شليل شليلنا دليب
شليلنا دليل على البلدات بعد درب التبلدية
شليل ما راح شليل ما فات
شليلنا ونحنا همباتا ومهاجرية
مزارع بات على عشقين
تراب بلدو وسماح فوق بت مزارعية
وبين مداخلات هاشم صديق وخطاب حسن احمد يعقب يحيى فضل الله مبشرا بالامل وطاردا للخوف والخنوع :
يا ضلناالمرسوم على رمل المسافة
وشاكي من طول الطريق
قول للبنية الخايفة من نار الحروف
تحرق بويتات الفريق قول ليها ما تتخوفي
دي النسمة بتجيب الامل والامل يصبح رفيق
ومع انبلاج الفجر تهب نسمات الصباح العطرة ليختتم صلاح حاج سعيد منظومة الكلم الجميل :
الا باكر يا حليوة لما اولادنا السمر
يبقوا افراحنا البنمسح بيها احزان الزمن
نمشى في كل الدروب الواسعة ديك
والرواكيب الصغيرة تبقى اكبر من مدن

في مثل هذه الايام من عام 1996م في فضاء الدوحة بقطر تأوه مصطفى اخر اهاته( وانطفت القمرة) وسكت صوت المغني مرددا غنيناك(ياسوداننا) وبنغني وبتحدى الزمن فنان… وختاما نقول ان مصطفى سيد احمد رحمه الله بحسه الانساني العالي وانتمائه العميق لوطنه وادائه المتوهج قد وهب الغناء السوداني شأنا جديدا لم يتمتع به من قبل . الصحافة
بشير علي إدريس