تحقيقات وتقارير
مشروع الجزيرة.. الأسطورة الفانية!
في أواخر عقد التسعينيات قامت صحفية بريطانية بجولة ميدانية في مشروع الجزيرة واجرت حوارا مع مديره العام، لكن التسجيل الصوتي الذي اقحم حديثا على الفيلم السينمائي العتيق، الذي يوثق بدايات المشروع، هو ما استحوذ اهتمامها، فسارعت الى تسجيل كلمات النشيد التي كانت تقول «زرعنا قمحنا الليلة دوب ارتحنا»، لأن الصحفية الشقراء كانت تعلم ان دولتها انشأت المشروع خصيصا لزراعة القطن.. على الأقل الفيلم الوثائقي كان يحكي ذلك..!
الآن 3733 من العاملين في مشروع الجزيرة يتهددهم مصير مجهول ينتظر المشروع الذي يعد أكبر المشاريع الزراعية في السودان منذ انشائه في عشرينات القرن الماضي، فالعاملون هناك سيطر عليهم الاحباط بسبب سيف الهيكلة الذي يتراءى للجميع في أعقاب دراسة أجرتها احدى بيوت الخبرة التركية عن الأوضاع في المشروع.
والاهمال يستشري في المشروع منذ سنين، ففي الغيط تقلصت المساحات المزروعة قطنا بنسبة كبيرة للحد الذي جعل معظم المحالج في مارنجان والحصاحيصا تصمت عن أزيزها، فالموسم الماضي تمكنت ستة محالج فقط، من جملة 12 محلجا، في كل من المنطقتين والباقير من حلج محصول القطن البائس في وقت مبكر للغاية، حيث زرعت 80 ألف فدان فقط بينما كانت تتراوح مساحات القطن ما بين 500 ألف الى 600 ألف فدان في الماضي.
وخطوط السكة حديد الجزيرة، ذات القضيب الضيق، التي كانت تنقل محصول القطن من الغيط الى ساحات المحالج، والأسمدة الى المزارعين في التفاتيش، إصابتها اللعنة أيضا، فقد أضحت معظم تلك الخطوط غير صالحة لأن يتهادى «الطرماي» عليها، بعد ان عمد العديد من الناس الى اقتلاع القضيب والاستفادة منه في مآرب أخرى.
ومصلحة الهندسة الزراعية صاحبت امتياز العمليات الحفرية في مشروع الجزيرة أصابها الشلل التام، عندما فقدت كل آلياتها الثقيلة المشهورة باسم «الدي سفن»، وبالكاد تنجز مهمة حفر قنوات أبوعشرين بواسطة ثلاثة جرارات.
وفي ورش مارنجان، ثاني اكبر الورش في السودان، يمضي خيرة العمال المهرة سحابة يومهم بلا مهام حقيقية، نسبة لعدم استيراد قطع الغيار التي كانت تدير الآلاف من ماكينات الحليج وبقية الآليات المسئولة من دفع عملية الانتاج.
أما في المحالج فقد منحت ادارة مشروع الجزيرة عمالها عطلة تمتد الى قرابة الثلاثة أشهر، لأنه لا توجد لديهم اعمال يقومون بها بعد انتهاء موسم حليج القطن التعيس..!
وحتى منازل العمال والموظفين ومنشاءات المشروع في بركات ومارنجان ومكاتب الغيط، لحقتها التصدعات وأمست بالية تلعن عجلة الزمن التي كانت تدور الى الخلف خلال العقدين الأخيرين، فعمليات الصيانة السنوية لعقارات المشروع التي كانت تشمل الجميع، هي الآن تنفذ بمبدأ «الخيار والفقوس»..!
وأمس الأول فقط خرج العاملون بمشروع الجزيرة عن صمت وصبر طويلين بعد ان خزلتهم الادارة بعدم الايفاء بمرتبات شهري أغسطس وسبتمبر، حيث أمضى العمال المغلوبون على أمرهم شهر رمضان وعيد الفطر المبارك بلا مرتبات، فنظموا مظاهرة سلمية انطلقت من محالج وورش مارنجان وحتى رئاسة ادارة المشروع في بركات، حيث ساروا بالأرجل مسافة ثلاثة كيلومترات وهم يهتفون بسقوط النقابة التي فيما يبدو آثرت الابتعاد عن العمال الغاضبين..!
والتراجع الذي يصر الكثير من المسئولين على نفيه في مشروع الجزيرة، لا تنحصر آثاره على بضع مئات من العاملين، لكنه انهيار لمنظومة كاملة من الحياة ونمط اقتصادي ومعيشي، كان يكفل الحياة الكريمة لمنطقة الجزيرة بكاملها، عبر دورة اقتصادية، شمل ريعها الكثير من العمالة التي كانت تفد من كردفان ودارفور وحتى من دول غرب أفريقيا.
وتعد أزمة تأخر مرتبي أغسطس وسبتمبر، حلقة صغيرة من مجموعة الأزمات التي يعيشها المشروع منذ ان عزمت الدولة على التخلي عن تمويل المشروع، ذلك العزم الذي بدأ فعليا باجازة قانون مشروع الجزيرة الجديد.ويقول الامين العام لنقابة عمال مشروع الجزيرة كمال النقر، رغم ان الأزمة سببها القصور الإداري من جانب اداة المشروع، إلا ان التأخر هذا لا يمكن ان «يقيم الدنيا ولا يقعدها»، لأن جميع الولايات بها مشكلة متأخرات، بينما تأخرت المرتبات في المشروع لمدة شهرين فقط، رغم الامتيازات الكبيرة التي يتمتع بها العاملون في المشروع، ويشير النقر في حديثه معي امس الأول عبر الهاتف، الى ان توفير مبلغ ستة ملايين جنيه لـ 3733 عامل شهريا من البنوك التجارية يعد أمرا في غاية الصعوبة على الإدارة.
لكن يبدو ان للعاملين في المشروع رأي آخر، حيث يرى محاسب تحدث لـ»الصحافة» من رئاسة المشروع في بركات، ان المشكلة الحقيقية الآن هي توقف الدولة عن تمويل المشروع، وعدم تدخلها في التركيبة المحصولية التي يزرعها المزارع، لجهة ان قانون مشروع الجزيرة اعطى الخيار في ذلك للمزارعين، فرفعت الحكومة يدها عن تمويل القطن، الذي كان المتحصل من رسومه الإدارية، يسد معظم نسبة المرتبات للعاملين الذين كان يفوق عددهم الـ 13 ألف عامل يتوزعون في الرئاسة ومارنجان والحصاحيصا والباقير، بجانب 114 تفتيشا تمتد على مساحة اكثر من مليوني فدان، ما بين النيلين، الازرق والأبيض.
ويتهكم مراجع يعمل في المشروع على الدراسة التي قامت بها احدى بيوت الخبرة التركية واوصت بالابقاء على 377 عامل فقط من جملة 3733 عاملا، يمكن ان يديروا دفة العمل بالكاد اذا عادت الحياة الى جسد المشروع المنهك، عبر اجراء هيكلة شاملة في المشروع، ويقول المراجع الذي تتحفظ «الصحافة» عن كشف اسمه، ان كلية الزراعة بجامعة الجزيرة يمكن ان يكون العاملون بها اكثر من 300 عامل، فكيف يديرون ادارة مشروع مساحته مليوني فدان بـ 377 عاملا فقط..!
ويضيف ان جميع العاملين في المشروع يعانون احباطا قاتلا لا يمكن ان يكون معه اي عملية انتاج، بسبب المقصلة التي تنتظرهم عند اجراء الهيكلة.
لكن الامين العام للنقابة ينفي بشدة اي اتجاه لهيكلة المشروع، رغم انه يضيف قائلا «اعادة ترتيب المشروع حسب ما هو مطلوب في قانون مشروع الجزيرة وارد»، ويوضح ان الحديث ليس عن الهيكلة او تشريد العاملين، لكن هناك اعادة ترتيب واجراء تحويل وظيفي وهذا متاح بالقانون، مؤكدا ان الهيكل المقدم من بيت الخبرة التركي ما زال في طور الدراسة، ويفيد بان النقابة ستكون حريصة على مصالح العمال.
بيد أن المحاسب بمشروع الجزيرة، قطع بأن الهيكلة التركية باتت شبه واقع، حيث يقوم مراجعون باجراء الحسابات اللازمة لحساب حقوق مئات العاملين الذين سيتم الاستغناء عنهم، مؤكدا ان توفير مستحقات هؤلاء العمال سيكون العقبة الوحيدة امام انهاء الكثير من الوظائف..!
ويبقى المشروع، عملاقا في انتظار استخراج شهادة الوفاة، التي بدأ تحريرها منذ ان اصبحت وظيفة الرجل الاول في مشروع الجزيرة تعيينا سياسيا، وهي الآن في انتظار توقيع أخير وختم يحبر من ختامة بالية، وتنتهي الأسطورة..!
أحمد فضل :الصحافة [/ALIGN]