حوارات ولقاءات

عدم تنفيذ الانقلاب يوم (30) يونيو يعني أن مجموعة أخرى ستسبقنا وتأتي من مدرعات خشم القربة بقيادة الضابط “علم الهدى”

الفريق أول “محمد محمود جامع”، أحد قادة ثورة “الإنقاذ”، كان له دور مفصلي في عملية الانقلاب الشهيرة ليلة (30) يونيو، التي قادت العميد “عمر البشير” وقتها إلى قصر الرئاسة بسلام.
الفريق “جامع” نأى بنفسه بعيداً عن الأضواء، رغم أنه كان أوّل سكرتير لمجلس قيادة ثورة الإنقاذ، وأوّل مدير لمكتب الرئيس “البشير” في القصر الجمهوري..
التقيناه في حوار تناول أسرار ليلة الانقلاب وما قبلها وبعدها.. وخفايا وقع القرارات التي صدرت.. وكيف صار بعيداً عن الرئيس “البشير” بعد أن كان هو الأقرب..
هذه وغيرها من الأسئلة نترككم مع إجاباتها على لسان ضيفنا في المساحة التالية:

{ ترتيبات وضعت خارطة لثلاث وعشرين عاماً هي عمر ثورة الإنقاذ.. كيف تم الإعداد لها قبل ليلة (30) يونيو الفاصلة؟
– جميع الترتيبات قد ظهرت لاحقاً للعيان، ما عدا بعض الجوانب الخافية بشأن الترتيبات العسكرية، وبخصوص التنفيذ فقد قسمنا العاصمة لمناطق عسكرية، منطقة الخرطوم ممتدّة من كوبري القوات المسلحة إلى كوبري أم درمان.. (منطقة المسؤولية) وقائدها العميد م . “صلاح كرار”.. ومنطقة بحري العسكرية تمتدّ مع النيل حتى الكدرو، يقودها “عثمان أحمد حسن”، ومنطقة أم درمان جنوب تضم السلاح الطبي وسلاح المهندسين يقودها “الطيب سيخة” و”عمر الأمين كرار”، والمنطقة الرابعة أم درمان شمال تضم الكلية الحربية ووادي سيدنا ومدرسة المشاة، ويقودها “عبد الرحيم محمد حسين”.. و”الزبير محمد صالح” بمنطقة جبل أولياء، ولكنه اعتُقل بعد انقلاب المايويين الفاشل مع “أحمد فضل الله”.
{ وأين كان العميد “جامع” وقتها؟
– الشهادة للتاريخ إني كنت قد بعثت وقتها من منطقة بحري – سلاح الإشارة – لأنضم إلى القيادة بمنطقة الخرطوم مع العميد “صلاح كرار” قبل التنفيذ بفترة وجيزة، وكنت من ضمن الطاقم الذي نفذ العملية ولكن بعض القيادات تجاهلت دورنا وأسقطتنا من حساب الذكريات.
{ كيف كنتم تجتمعون والاستعدادت العسكرية في أوجها وقد سبقكم المايويون بانقلاب فاشل ؟
– كانت الاجتماعات تجري بصورة سرية للغاية مع تغيير الأماكن، وكنا نبتعد عن أماكن التجمعات، وكانت الاجتماعات تمتد أحياناً حتى الساعات الأولى من الصباح، وأحياناً كنا نجتمع في السلاح الطبي في غرفة الأشعة وبتأمين من الأخت “مهدية” التي أصبحت في ما بعد زوجة “الطيب سيخة”، وهي المرأة السودانية الوحيدة التي ساعدتنا في الانقلاب.
{ وكيف كنتم تدعون للاجتماعات؟
– كان هنالك أفراد مكلفون بمهمة الإعلام والتبليغ، وكنا نسميهم حركياً (سواقين)، والبعض منهم صاروا وزراء.
{ من منهم تذكر؟
– مثل “الزبير محمد الحسن”، الدنقلاوي، عبد الوهاب، والفاششويا.
{ تحديات واجهتكم قبل ليلة الجمعة؟
– كنا وقتها أمام تحدٍّ عصيب، وكان عدم تنفيذ الانقلاب يوم (30) يونيو يعني أن مجموعة أخرى ستسبقنا وتأتي من مدرعات خشم القربة بقيادة الضابط “علم الهدى” وتنفذ انقلاباً.. فقررنا أن نفطر بهم قبل أن يتغدوا بنا، وكنا في ساعة الصفر تماماً، وأذكر أننا اجتمعنا يوم (الثلاثاء) في السلاح الطبي مع قيادات المناطق.. “صلاح كرار”، “عبد الرحيم محمد حسين”، “الطيب سيخة” و”عمر الأمين كرار”، وقبل بداية الاجتماع أرسل لنا “عثمان أحمد حسن” مرسالاً يعتذر عن حضور الاجتماع ويطلب منا التراجع عن التنفيذ، وقال إن نسبة نجاح الانقلاب ضعيفة ولا بد من التراجع عن التنفيذ يوم الجمعة (30) يونيو.
{ (مقاطعة): ولماذا طلب منكم التراجع وتوقع فشل الانقلاب؟
– لأنه كان يعلم أن نسبة المنفذين لا تتعدى الـ (10%)، وكلنا كنا نعلم ذلك.
{ ثم ماذا بعد هذه الدعوة؟
– ذهب إليه “الطيب سيخة ” في منزله وعاد إلينا دون أي نتيجة، ولم ينجح في إقناعه ليجتمع معنا، وكنت وقتها الرتبة الأعلى في غياب “عثمان”، فطلبت منهم الثبات على موقفهم، وأنه لا بد من أن ننفذ الانقلاب فى نفس يوم (الجمعة). وفي يوم (الأربعاء) اجتمعنا في بحري بأحد المنازل مع القيادات السياسية، وبحضور القائد “عمر البشير”، وأجمعنا على التنفيذ في الموعد.. وفي يوم (الخميس) كنا على أهبة الاستعداد، وكان لا بد أن أكون (نبطشياً) بالخدمة ليلة (الجمعة).. والمشكلة أننى كنت في الخدمة ليلة (الأربعاء)، وكان من الصعوبة بمكان إقناع قائدي بالبقاء، فتحججت بالذهاب إلى المطار لأمر طارئ، ثم شاءت الأقدار أن تم تكليفي بالذهاب إلى شعبة الإمداد واستلام أسلحة قادمة، فكان أن نفذت الأمر، ثم عزمت الضباط (النبطشية) وجبة عشاء فاخرة، وبقيت في انتظار الإشارة.
ومن مجموعة بحري (النبطشية) في تلك الليلة أذكر منهم ملازم أول “عبد العظيم” الذي كلف بتأمين الكبري، والفريق أول” النو” “وتاج السر” قاما بقطع خطوط الاتصالات والميكرفون العسكري، وأيضاً كان هنالك “محمد الأمين خليفة”، وأذكر “بكري محمد صالح” من القوات الخاصة والمرحوم “حاج ياسر”.
{ هل وقع خطأ في تلك الليلة كاد يفسد عليكم كل شيء؟
– في منطقة المهندسين لم يتم تعطيل الميكرفون، وبالتالي لم يتغير سر الليل، مما أدى إلى استشهاد الرائد “أحمد قاسم”.
{ كنت أول مدير لمكتب الرئيس عمر البشير؟
– عقب إذاعة البيان وتأكدنا من نجاح الانقلاب، هرعنا إلى القيادة العامة، وكان الجو بالقيادة يسوده الهرج والبلبلة، وكانت الوفود تتدافع بين مهنئة ومباركة، فبادرنا بنقل الرئيس إلى سلاح النقل، مكتب القائد العام، وكان معي” “محمد عثمان محمد سعيد”، ثم كلفت أن أصبح سكرتيراً للرئيس، ووضعت تربيزة عادية أمام مكتب الرئيس، وبدأنا في تنظيم أعماله .
{ كم من الوقت مكثت سكرتيراً للرئيس بالقصر الجمهور ؟
– حوالي عام واحد ثم تم استبعادي.
{ (مقاطعة): لماذا تم استبعادك؟
– في تلك الفترة كان الرئيس حديث عهد بالتجربة، وهو يمتاز بأريحية كبيرة، ومكتبه كان مفتوحاً لاستقبال صاحب أي حاجة، حتى من العامة، وكنت أقوم بالسماح لأي شخص بلقاء الرئيس بعد الإجراءات اللازمة، وهذا التساهل في تعاملي مع الأمور، وبحكم أنني كنت بعيداً في أغلب الفترات عن العاصمة في مهمات عسكرية، جعل موقفي بهذا المنصب ضعيفاً أمام بعض القيادات، على الرغم من يقيني بأن تلك المقابلات المفتوحة للرئيس في أول عهده شكلت نقطة مهمة في مكانته لاحقاً لدى الشعب.
{ عاصرت فترة تكوين مجلس قيادة الثورة؟
– نعم، ومجلس قيادة الثورة قام بتكليف من القيادة السياسية آنذاك، حتى أن المجلس ضم أناساً خارج التنظيم الإسلامي وقتها.
{ (مقاطعة): تعني أن المجلس كون ارتجالياً ودون إعداد مسبق؟
– نعم، لم يكن هنالك أي استعداد قبل الانقلاب.
{ من هم أقرب الأشخاص إلى الرئيس في السنة الأولى من الرئاسة ؟
– كان المرحوم “الزبير محمد صالح”.. وأيضاً “التجاني آدم طاهر” كان من أكثر الشخصيات التي تتردد على مكتب الرئيس.
{ من أين كانت تصدر القرارات المهمة عادة؟
– كانت تصدر من مطبخ القيادة السياسية، فهي كانت الموجهة والمخططة والطاغية على قرارات مجلس قيادة الثورة ومجلس الوزراء، حتى أذكر أن بعض الأفراد من التنظيم السياسي عندما أخبرهم بأن هذا القرار جمهوري يجيبوا باستنكار (شنو يعني)!!
{ وما هو موقف مجلس قيادة الثورة من القيادة السياسية؟
– كان يوافق بالإجماع أيضاً على القرارات السياسية، ولكن الخلل كان يأتي عندما يصدر المجلس قراراً فتستهجنه القيادة السياسية، مما خلق نوعاً من الصراع الخفي وتضارباً في الاختصاصات والقرارات باكراً.
{ ما هو موقف الرئيس حيال ذاك الصراع الخفي بين الإدارة السياسية ومجلس قيادة الثورة؟
– كان الرئيس يحترم القيادة السياسية، ويثني على قراراتها، وفي الوقت نفسه كان الرئيس إنساناً ديمقراطياً ويميل إلى الوسطية في المصادقة على القرارات، لذلك كان يهتم في الوقت نفسه بآراء مجلس قيادة الثورة، ويشاورهم قبل إجازة القرار.
{ هل تعتقد أن السنة الأولى وضعت البذرة لانقسام القصر المنشية؟
– نعم، فالصراعات التي حدثت أججت الصراع داخل القيادة السياسية نفسها، وجعلت “الترابي” يزكي النيران بحل مجلس قيادة الثورة لاحقاً. وأرى أنه كان أجدى للترابي أن يظل في مكانته العالية التي حظي بها لدى الرئيس وأعضاء قيادة الثورة بدلاً من أن ينزل ويتنافس مع تلاميذه.
{ إذن بما تفسر ما حدث؟
– التكتلات، وتعصب كل مجموعة لقياداتها، ولو استمرت الأجواء الإيجابية التي سادت الفترة الأولى للانقلاب والروح الطيبة، لكان الوضع مختلفاً تماماً الآن.
{ لقربك في الفترة الأولى من الرئيس كيف كان يبدأ يومه؟
– عادة يبدأ الرئيس يومه بمطالعة الصحف والتقارير السياسية والعسكرية، ويولي أهمية كبيرة للوقوف على عامة الشعب من خلال مقابلاته معهم ومكتبه المفتوح لهم.
{ شيء تراه يميز شخص الرئيس؟
– سريع البديهة.. ما إن نشير لأي ملاحظة حتى يكمل بقية التفاصيل بصورة مدهشة ودقيقة، وكان يهتم بأدق التفاصيل، ويميل للخطابات الارتجالية العفوية بدلاً عن الرسمية.
{ المشير “البشير” بين الأمس واليوم؟
– لم يتغير كثيراً بقدر ما تغيرت البطانة من حوله.. وأرى أن البطانة وقفت حائلاً أمام بعض الناس.
{ كيف جندت لتصبح من بعد ضمن المنفذين للانقلاب؟
– كنا نجتمع كضباط ونتناقش في أحوال البلاد، خاصة وأن الأحوال كانت سيئة وضاغطة، وكنت وقتها أعمل بسلاح المهمات ببحري، وأمتلئ بالوطنية والحماسة، وأذكر في أحد الأيام من العام 1985م وعقب أحد لقاءاتنا طلب مني أخونا المرحوم “عوض الكريم مساعد” أن انضم للحركة الإسلامية، وقال لي: أنت إنسان متحمس للعمل الوطني وإذا لم تنضم الينا ضمتك تيارات أخرى وأنت أقرب إلينا من حيث الأفكار والمبادئ فوافقت وانضممت إليهم.
{ وبدورك قمت بتجنيد آخرين؟
– نعم، منهم قيادات بمجلس قيادة الثورة.
{ إذا عادت الأيام ووجدت نفسك فى يوم (29) يونيو، هل ستشارك في الانقلاب بنفس الحماس؟
– (بعد صمت): يومها كان أي عاقل سيشارك بحثاً عن التغيير، فالوضع العام كان دقيقاً، وكان لا بد من ذلك، وإذا لم نكن ضمن المغيرين فتيارات أخرى كانت ستفعل.
{ هل تلتقي حالياً مع أي من القيادات السابقة التي نفذت معكم؟
– لا.. لا.
{ لماذا؟
– تخوفاً من أي حرج قد أسببه لهم.

حوار: سوسن ياسين – نجدة بشارة
صحيفة المجهر السياسي

تعليق واحد

  1. [SIZE=4]نشكر صحيفة صحيفة [COLOR=#FF3E00]المجهر السياسي[/COLOR] و موقع [COLOR=#1AFF00]النيلين[/COLOR] على هذا الحوار [/SIZE]