رأي ومقالات

الريح:وإنك لترى ذوات الثدي وهن سائراتٍٍ، مكنكشات في موبايلاتهن وهن في غمرة انشغالهن لا يدرين أنهن ربما يبدين زينتهن لغير بعولتهن.أو ربما يصطدمن بسائق

أصدقائي يقولون لي:يا أخ إنت ليه ما بترفع التلفون؟. الموبايل بتاعك دا يرن ويرن لحدي ما يقيف وإنت ما بترد؟
هذا بالضبط ما يحدث. يرن الموبايل إلى أن أستغيث ولا أرد. والسبب ببساطة أنا أكون مرتكباً الشارع وسائقاً العربة. ولأني لا أريد أن أرتكب شيئاً آخر فلا أرد. غير أنني أترك الموبايل في حالة صمت حتى أعود إليه وأجد الأرقام التي تسجلت وأرد عليها.. لأني لا أستعمل ولن أستعمل الموبايل وأنا في حالة سواقة.
«ولم أر في عيوب الناس عيباً»
كمشغلة الموبايل في السواقة
لأن السائق المشغول دوماً
يقاسي الويل من كتر الشلاقة
إذا التركيز فارقه ثوان
فلن يدري الجدار من الزقاقا
وحين يجيئه خبر مثير
فيضرب لخمة معها حماقة
«نعيب زماننا والعيب فينا»
ويكبر همنا بعد الإعاقة
فجنب كي تتابع أي كولٍ
خصوصاً تلكمو الونسة الدقاقة
لقد تغيرت المناظر بعد أن هطلت علينا الموبايلات كالمطر. وكتقانة متطورة لم يهبط معها سلوك متطور. وقد قال بديع الزمان الهمزاني في مقامة «الموبايل والجرح الهائل»: «وإنك لترى ذوات الثدي وهن سائراتٍٍ، ثيبات وأبكارا، مكنكشات في موبايلاتهن وهن في غمرة انشغالهن لا يدرين أنهن ربما يبدين زينتهن لغير بعولتهن. أو ربما يصطدمن بسائق هو الآخر قد انشغل بالحديث فلم يميز الطيب من الخبيث فوقع في شر أعماله وضيع نصف رأس ماله.» والسابلة ممن يعبرون الطريق وهم لم يتعلموا من الأغنام كيف تعبر الطريق وفي أذانهم يلتصق الموبايل فيسيرون غير مبالين وبمن حولهم غير واعين وتبقى سلامتهم رهناً بوعي الآخرين. لقد تغير منظر الشارع العام إلى شخوص وشخصات وهم في حالة كلام دائم لا ينقطع إلا بانقطاع الرصيد:
ولو تتعطف يا سيدي داك يبقى يوم عيدي
لو انت ضعيف رصيدك بحول ليك رصيدي
أو كما قال الشاعر شمس الدين
ماذا لو علمت أن الرصيد الذي حولته لها جعلها تتحدث وهي غير واعية بمن حولها حتى دهمها داهم من قبيلة بني حافلة في منتصف الطريق فتطاير الكلام من رأسها وملأ الأسفلت كلماتها المتقاطعة؟
كم حادثة كان الموبايل قائدها والمخطط لها ومبرمجها وفي اللحظة التي تزيح فيها نظرك عن الطريق وهي لحظة تقاس بجزء من الثانية يحصل المقدور وما بنفع «الجقليب». نريد موقفاً محدداً والتزاماً منا كلنا شيباً وشباباً وشابات وكل من هب ودب وهو يحمل موبايلاً أن نمتنع عن استعمال الموبايل ونحن نهم بعبور الطريق أو في حالة كوننا سائقين. ليس لأننا نخاف الغرامة ولكن لأننا نعمل حساباً لأنفسنا ولأسرنا وللآخرين. والحياة لنا ولسوانا.
كالكلب ينبح و الخرطوم تزدحم
ان ازدحام مواقف البصات داخل كرش الفيل التى كانت في يوم من الأيام المحطة الوسطى في ام درمان وبحري والخرطوم جعلت من المستحيل تحرك تلك الدواب الميكانيكة داخل المدن وقد انزرقت وسطها جيوش الركشات وما يسمى بأمجاد والباعة المتجولون والمتسولون.. هل رأيتم ذلك المتسول المعاق الذي يزحف على رجليه ليلاً وسط العربات المتكدسة حول اشارة نفق بري؟
كم مرة كدت ان اصدمه حيث إن الرؤية متعذرة و العربات تصطف صفوفاً من مسجد الجامعة ومن القيادة العامة ومن منتصف شارع الجمهورية ومن كبري القوات المسلحة.. والدنيا ليل وهذا الرجل يمد يده من داخل «الصينية» ولا أحد يقول شيئاً. اين الرعاية الاجتماعية؟ أين ملاجئ العجزة بل لماذا لا يمنع رجال المرور أمثال هؤلاء من التسول في هذا المكان وفي مثل هذا الوقت حماية لهم حتى لا يدهسهم أحد وهو لا يراهم؟
لا أرى حلاً لما آل إليه حال العاصمة القومية الا برسم خريطة جديدة تعيد توطين البشر وتوطين مواقف المواصلات وفتح مخارج جديدة للمخانق التى تجعل في نهاية كل شارع رئيسي عنق زجاجة.. حتى ولو دعا الحال الى تكسير بعض المباني وتعويض أصحابها فهكذا فعل الصاغ عبد اللطيف البغدادي على ايام الثورة المصرية الاولى بالقاهرة.. ويجب ان تكون هنالك استراتجية نافذة تعيد تنمية الريف حتى لا يضطر البشر إلى فقد بشريتهم وآدميتهم في شوارع العاصمة القومية.. حيث الضغط على جميع المرافق يحدث بصورة مأسوية.
كنت في استقبال حوادث أحد المستشفيات الحكومية مع صديق طبيب مناوب. في تلك الليلة وفي حوالى الساعة الثالثة والنصف منتصف الليل عندما جاء شرطي ومعه امرأة ويحمل أورنيك8.. و رفع الطبيب رأسه وسأل المرأة وهو ينظر في الاورنيك :
-مالك عندك شنو ؟
-أداني أم كف..
-هو منوا الأداكي ام كف ؟..
-زول جارنا..
ولم اتمالك نفسي الا أن أسالها :
-وانتي قاعدة صاحية لحدي الساعة تلاتة عشان يديكي أم كف ولا أم دلدوم ليه؟
-ما النوم ما جاني..
تصور هؤلاء.. جاءوا من اقاصي السودان البعيدة ولكن النوم لم يجئهم في الخرطوم بل جاء يهبط عليهم جار فيعطيهم «ام كف» في مثل هذا الوقت من الليل.. وتصورت ذلك الزمن المهدر الذي فتح فيه البلاغ والشرطي الذي وصل هو والمرأة على عربة الحكومة.. والطبيب الذي قام بالكشف على المرأة ليعطيها حبتين اسبرين لأن ام كف سببت لها صداعاً.. نحتاج الى عشرات الاختصاصيين في علم الاجتماع والنفس والصحة النفسية لدراسة افرازات هذا التكدس البشري المخيف الذي يحيط بالعاصمة القومية بكل شروره و بلاواه.. ان ما يدفعه المواطن من مخزونه العصبي والمادي والصحي والمعيشي مقابل بقائه في العاصمة لا يعادل ما يحصل عليه.
كم عدد المجانين نقول كدا بلا رتوش او محسنات لفظية؟.. كم عدد المجانين في العاصمة القومية؟ وكم عدد الذين يطقعون بالحجارة وكم عدد الذين يتكلمون مع انفسهم وكم عدد الذين هم في طريقهم الى هذا المصير؟
الخرطوم:د.محمد عبدالله الريح:الانتباهة