تحقيقات وتقارير

الهجرة غير الشرعية .. غرق الأحلام في رحلة الموت

[JUSTIFY]لم تعد الحرب وحدها هي ما يجبر بعض السودانيين للهروب من وطنهم، واللجوء إلى أوطان جديدة ، إذ أن تفاقم الأوضاع الاقتصادية التي أوصلت البلاد إلى حافة الانهيار، بات يمثل عاملاً أساسياً لتزايد الهجرات الشبابية إلى مختلف دول العالم، بحثاً عن تحسين أوضاعهم الاقتصادية .
وإذا كانت الهجرة إلى بعض الدول العربية والأفريقية الأخرى، أمراً معتاداً عرفه السودانيون منذ عقود مضت، فإن ظهور طرق جديدة للهجرة لم تكن معروفة من قبل، باتت تمثل ظاهرة بعد استحداث مسارات جديدة، عبر البحر الأبيض المتوسط، ومنه إلى ايطاليا واسبانيا، كما تم استحداث الهجرة إلى استراليا عبر (الجزر الأندونيسية)، بالإضافة إلى طريق (صحراء سيناء)، التي عبر منها العشرات من السودانيين إلى (اسرائيل) في بداية الألفية، بمساعدة البدو نظير مبالغ مالية كبيرة .
وباتت أخبار موت السودانيين من طالبي الهجرة غير الشرعية، تتصدر عناوين الأخبار، وليس آخرها انقلاب قارب في نهر تورسي في (ميروكي)، منطقة (بابوا) في أندونيسيا الأحد الماضي، وعلى متنه مايقارب الثلاثين شخصاً معظمهم يحملون الجنسية السودانية. وبحسب سفير السودان في أندونيسيا «عبد الرحيم الصديق»، فإن شخصين لقيا حتفهما يوم (الثلاثاء)، وأن (9) من ركاب القارب نجوا، ولكن (14) آخرين في عداد المفقودين. وقال «الصديق» لـ(المجهر) أمس إن مجموعات كبيرة فاقت الـ(200) فرد يقيمون في أندونيسيا بصورة غير شرعية، في منطقة جبلية تبعد من العاصمة جاكرتا (3) كيلومترات . وأوضح أن السفارة السودانية تقود جهوداً للاتصال بتلك المجموعات، عبر سودانيين مقيمين بصورة شرعية، لإقناع قاطني الجبال أولئك بالعدول عن فكرة الهجرة إلى استراليا. وأضاف أنهم يبعدون عن الأنظار، لأن معظمهم يقيمون بصورة غير شرعية، بعد انتهاء الأجل الزمني للإقامة الشرعية التي حددتها السلطات الأندونيسية بشهر واحد فقط «، بعدها يدفع الفرد منهم مبالغ مالية كغرامات، نظير الاستمرار في البقاء داخل الأراضي الأندونيسية . ويبدو أن تلك الجهود قد أتت أكلها وإن كانت الاستجابة لها ضعيفة حتى الآن، إذ اتصل بالسفارة السودانية (10) سودانيين والآن بصدد إكمال إجراءات عودتهم إلى البلاد .
وقال السفير «الصديق» إن تلك المجموعات تعرضت إلى عمليات غش وخديعة، بدأت من السودان عبر مجموعات محترفة، تهرب البشر نظير مبالغ مالية ضخمة، إذ تصل قيمة السفر بواسطة القوارب، إلى (3) ألف دولار للشخص الواحد. وأرسل «الصديق» رسالة تحذيرية للشباب من خطورة شبكات تهريب البشر، تمنح في كثير من الأحيان تأشيرات سفر مزورة، كما ناشد السلطات في المطارات بالتدقيق في تأشيرات الدخول قبل منحها لأي شخص. أما التسعة الناجون فهم في قبضة السلطات الأندونيسية.
( أحمد . أ) هو أحد الناجين التسعة الذين وصلوا إلى الشواطئ الأندونيسية، حكى لـ( المجهر) من جاكرتا ، بعض تفاصيل رحلة الموت قائلاً (تكدسنا على القارب بعد انتظار طويل في أندونيسيا وهدفنا كان استراليا). وكأن ذاكرته أرادت إسقاط لحظات غرق المركب قال لنا « أحمد» الذي بدت عليه علامات التشويش، إنه لايذكر كيف انقلب القارب، كل ما يذكره أنه وجد نفسه يسبح في اتجاه الشاطئ، لكن على مايبدو فإن خفر السواحل في أندونيسيا، قاموا بإنقاذه هو ورفاقه . وأضاف ( بعد مغامراتي الثانية في قطع المحيط إلى استراليا بواسطة قارب، اكتشفت أن تلك مخاطرة لا حدود لها) .
أما « وسيل سليمان « فلم يقدر له حكي مغامرته، فالقدر لم يمهله حتى يبلغ مبتغاه، إذ غرق القارب الذي كان يقله ومجموعة من السودانيين، في عرض المحيط الهندي مطلع الأسبوع الماضي، وكانت المحصلة النهائية (14) مايزالون مفقودين، بينما تم العثور على جثتي شخصين كان من بينهما «وسيل»، وهو شاب في مقتبل العمر، هجر مهنة تدريس مادتي الكيمياء والرياضيات لطلاب المرحلة الثانوية، ليحقق حلم الوصول إلى القارة الاسترالية، بعد أن حفزه أصدقاؤه الذين وصلوا إلى هناك. وكانوا على اتصال دائم به ، رسموا له خط رحلة الأحلام التي تبدأ أولى محطاتها بالسفر إلى أندونيسيا، ومن ثم التسلل إلى جزيرة (كريسماس) التابعة لأستراليا في المحيط الهندي.
. يقول « محمدين سليمان» شقيق المتوفي «وسيل» بصوت حزين: (حاولت كثيراً إثناء شقيقي عن خوض مغامرة السفر إلى استراليا، وقطع تلك المسافة الطويلة عبر قارب صغير، لكنه لم يصغ لحديثي) . وتحدث « محمدين « لـ(المجهر) من العاصمة الأندونيسية (جاكرتا) التي وصلها (الثلاثاء) الماضي، قادماً من بريطانيا للمشاركة في تشييع شقيقه، وقال ( إن أصدقاء أخي في استراليا صوروا له الوضع في استراليا بأنه مثالي، وأنهم يتقاضون( 20) دولاراً في الساعة الواحدة، لذلك رفض كل محاولات إقناعه بعدم السفر ) . وذكر أحد السودانيين المقيمين في جاكرتا أنه تفاجأ بأعداد كبيرة من الشباب السودانيين عمرهم مابين الـ (20 -25) في الجزر الأندونيسية، وهم يجهزون أنفسهم للتسلل إلى استراليا.
وفيما تتعدد روايات الهاربين من واقع البلاد، يظل الهدف واحداً وهو الهروب من واقع إقتصادي مؤلم. يقول «كمال» وهو شاب ثلاثيني خاض محاولة فاشلة لطلب اللجوء السياسي إلى إحدى البلدان الغربية، (إن الوضع الاقتصادي في السودان بات طارداً، لذلك اضطر إلى التقدم بطلب للجوء السياسي). وروى لـ( المجهر) كيف أنه خاض اختبارات مكتب الأمم المتحدة في إحدى البلدان المجاورة، حيث مكث هناك أكثر من خمسة أعوام في انتظار اتصال من مكتب المنظمة الأممية لإخطاره باسم البلد الذي وافق على ( توطينه ) كلاجئ سياسي، غير أنه في نهاية الأمر عاد إلى بلده خالي الوفاض، بعد أن يئس من تطاول أمد الانتظار بلا جدوى.
ويوضح « كمال « أن العشرات من أصدقائه أفلحوا في إقناع الأمم المتحدة بمبرراتهم لطلب اللجوء السياسي، فيما لم تكن لهم أي علاقة بالسياسة، ممارسة أو انتماءًَ، وإنما كانوا يتخذون اللجوء كوسيلة فقط للحصول على فرصة للهجرة، إذ أن مشكلتهم الحقيقية هي اقتصادية في المقام الأول .
بينما يرى محللون أن اندلاع حرب السودان وجنوب السودان في تسعينيات القرن الماضي، بالإضافة إلى النزاع في إقليم دارفور، أدى إلى تزايد حالات طالبي اللجوء السياسي إلى الدول الأوربية، بدعاوى الاضطهاد وانتهاك حقوق الإنسان والتضييق السياسي، فيما حذرت وزارة الخارجية من تبعات ومخاطر الهجرة غير المشروعة إلى بعض البلدان الآسيوية مثل أندونيسيا وماليزيا، بغرض العبور إلى استراليا للحصول على اللجوء السياسي .
ونبهت الخارجية إلى وجود شبكات لمهربين محترفين، يعملون في تهريب البشر، ويقدمون إغراءات لهم لإمكانية الحصول على إقامات في استراليا، ويتقاضون منهم مبالغ طائلة، ومعلوم أنّ فيها الكثير من المخاطر والمحاذير الأمنية، حيث يتعرض المهاجرون للاستغلال والاستفزاز المادى، وسوء المعاملة من المهربين، كما أنهم يتعرضون للاحتجاز في عدد من الدول، لعدم حصولهم على التأشيرات اللازمة .

الخرطوم : مي علي: صحيفة المجهر السياسي[/JUSTIFY]