رأي ومقالات

د. يحيى التكينة : اليوم الذي نسيناه والتاريخ الذي دفناه !!

[JUSTIFY]مرت أخطر مرحلة في تاريخ السودان لم يلتفت إليها أحد.. صمت الإعلام المقروء والمسموع والمرئي.. نامت وزارة التربية والتعليم والتعليم العالي على وسائد الخلافات دون أن ينتبهوا إلى حق الرجال صُناع الحرية والديمقراطية والذين تصدوا لقضايا الوطن عندما انصهر كيان الأمة متماسكاً.. بجميع أحزابه وطوائفه.. يوم أن اتفقت الكلمة وتحدد الهدف.. يوم كان الشعور الوطني ملتهباً بالحماس والوطنية والحس القومي..

أننا نعيش هذه الأيام اليوم الذي نسيناه والتاريخ الذي دفناه في غياهب الذكرى المنسية وشغلنا أنفسنا دون أن ندري أننا إذا أعدنا وقفة الرجال وتماسك الأحزاب وقتها والوطنية وحب الوطن لجنينا الوحدة بعد الشتات والبناء بدل الخراب..

في تلك الفترة الهامة من تاريخ الوطن التي اتفق فيها أهل السودان مشاعراً وأحاسيساً.. أهدافاً ورغبات واتخاذهم للوطنية مقياس كان عربون كل ذلك جني ثمار الكفاح والنضال منذ الثورة المهدية مروراً بأكبر مذابح التاريخ التي ارتكبت في موقعة كرري واستشهاد الأبطال إلى بداية مراحل الصمود والكفاح من جيل ود حبوبة وإخوانه الأشاوس مروراً بجمعية الاتحاد واللواء الأبيض والاستشهاد والنضال إلى قيام مؤتمر الخريجين واجهة السودان التي قادته إلى تحقيق الأهداف وصناعة التاريخ مروراً بالمجلس الاستشاري والجمعية التشريفية.

هذه الذكرى التي تمر هي حصيلة كل هذا وذاك هي حصيلة القنابل والرصاص ومحاكم في المدن والأرياف وسجون ومعتقلات وجو خانق وكبت للحريات ومقاومة حقيقية تمثل إرادة الشعب وعزيمة الأمة..

إنه يوم الدستور والحكم الذاتي.. الدستور الذي خططته الإدارة البريطانية في أن يضمن لها الاستمرار بجيوشها وبكل نفوذها في السودان وهو الذي وجد معارضة الشعب والأحزاب والتزام مصر الشريك الغائب الصمت التام وعندما قدم السير جيمس روبرتسون السكرتير الإداري الدستور للجمعية في 15 أبريل 1952 بحضور عبد الله بك خليل زعيم الجمعية.. عارضته الأحزاب ولعبت الصحافة السودانية دوراً مشرفاً يذكره التاريخ بأحرف من نور لرجال الصحافة بمختلف الانتماءات، فالقضية عندهم كانت السودان لا الانتماء الحزبي فانبرت أقلامهم ومقالاتهم تكشف وتسط الأضواء وسط هذا الزخم والحماس الذي انتظم الساحة السياسية حول الدستور والحكومة البريطانية تسرع الخطى في تنفيذ مخططها للحكم الذاتي والحكومة المصرية تحاول أن تضع السودان تحت التاج المصري وتدعو زعماء الأمة وجبهة الاستقلال للقاهرة للتفاوض وتحاول في عهد رئيس الحكومة الهلالي باشا إيقاع الوفد السوداني في شرك القبول بالسيادة المصرية مما أغضب الإمام عبد الرحمن المهدي ورفض المقترحات والمباحثات في الوقت الذي شهدت فيه مصر عدم الاستقرار السياسي الذي جاء بأكثر من حكومة جاءت ثورة الجيش في مصر في يوليو 1952 لتفتح صفحة جديدة في العلاقات المصرية السودانية وتتخذ بعداً آخر لكل الأحداث والتفاعلات السياسية التي مرت على قضية السودان.. جاءت ثورة مصر ووجدت أن الإدارة البريطانية خططت لطموحاتها في دستور يوشك الحاكم العام على تطبيقه في شهر نوفمبر 1952 ذلك الدستور الذي يمكن السودان من حكم ذاتي وبعد شهور قلائل من تطبيقه يمكنه من إعلان استقلال زائف.

لم يكن أمام مصر سوى طريقتين لا ثالث لهما أما القبول بالحكم الذاتي الذي طرحته الإدارة البريطانية بكل ما فيه من مساوٍ أو اختيار طريق آخر وعر بالتضحيات وينحصر في تركيز كل الجهود لتعديل مشروع الدستور ليعطي أكبر قسط من السلطات للشعب السوداني وحكومته بدءاً من الحاكم العام البريطاني والإصرار على خروج الإنجليز إدارة وجيشاً ومن السودان في أقرب فرصة ممكنة وليقرر شعب السودان بعد ذلك مصيره بمحض اختياره بعد زوال كل أثر للاستعمار، هذا الطريق اختارته ثورة مصر ووقتها أعلن علي ماهر بحضور محمد نجيب رفضهم لدستور حكومة السودان للحكم الذاتي ومن هنا أصبحت مصر تمثل ركيزة أساسية وقوية في قضية السودان.

ومن هنا بدأت الصحافة السودانية تفتح النوافذ والأبواب وتسلط الأضواء حول الوضع في البلاد وتبصر الشعب بمجريات الأحداث وتطالب الأحزاب بالتماسك واحترام كرامة الإنسان السوداني.
بعد ذلك تعددت الخطوات بعد أن أصبحت قضية السودان واضحة بعد قيام ثورة 1952 وأن الجبهة القومية قدمت مذكرة إلى اللواء محمد نجيب تحوي ملاحظاتها حول الدستور وعلى التعديلات التي تعطي السودان السيطرة على الحكم واقترحت أن يحدد الدستور موعد تقرير المصير وتمخّضت المفاوضات عن اتفاقية بين الحكومة المصرية وجبهة الاستقلال كونت أساس الحكم الذاتي وتقرير المصير لاتفاقية السودان التي عقدت بين مصر وبريطانيا في فبراير 1953 ولمصلحة القارئ نضع نقاط الاتفاق

ـ حكم ذاتي وفوري كمرحلة انتقالية
ـ توفير جو حر وحيادي للسودانيين لكي يختاروا بين الاتحاد مع مصر أو الاستقلال.
وأن خيار مصر تلخص في الاعتراف بحق السودان في تقرير مصيره ووقف سياسة استجداء بريطانيا في أمر علاقات مصر والسودان.
ـ زوال الحكم الإنجليزي المدني والعسكري من السودان شرط أساسي لممارسة السودانيين لحق تقرير مصيرهم.
ـ العمل على تعديل مشروع الدستور المقدم من الحاكم العام يتضمن أكبر قدر من السلطات للسودانيين وقد تم توقيع اتفاقية القاهرة مع الأحزاب السودانية وعند مطلع يناير 1953 أجمعت الأحزاب على دستور السودان وارتضته أساساً وأهم نقاطه.
ـ جلاء الجيوش الأجنبية من السودان قبل انتخابات الجمعية التأسيسة
ـ ما يقرره البرلمان بشأن الجنوب يعتبر نافذاً إذا لم ترد الحكومتين قبل شهر.
ـ الحكومة السودانية والبرلمان السوداني هما اللذان يقرران استبدال الموظفين البريطانيين بغيرهم.
ـ تحديد فترة الانتقال لثلاثة أعوام.
بهذه الاتفاقية التي اتفقت عليها كل الأحزاب حيث وحدت الكلمة والهدف وجعلت السودان شخصية سياسية مستقلة بعد أن انطمست شخصيته في غبار الخلافات.

بدأت مرحلة جديدة نتناولها في مقالنا القادم مع وثائق نادرة في تاريخنا الحديث والمعاصر.

صحيفة الإنتباهة
[/JUSTIFY]