رأي ومقالات
تجاني حاج موسى: أعمارنا والرحيل ..
يعني- يا جماعة- رحلة الحياة قصيرة قياساً بلحظات الصدق والسعادة التي يحياها الإنسان.. طيب كويس.. تداعت هذه الحروف وأنا أستعيد شريط ذكريات لأحياء رحلوا من هذه الدنيا آخرهم الصديق الفنان “محمد سلام” الذي فارق الحياة بالسكتة القلبية، وقبلها بيوم كان مشاركاً بالغناء في فرح ابنة زميل له.. تعددت الأسباب والموت واحد.. بالطبع مثل هذا الرحيل يحدث للإنسان ربكة تفقده التوازن، (معقول؟ أمس لاقيتو!! أمس اتكلم معاي!!)
والراحل “سلام” صديق حميم جمعتنا أواصر الإبداع وعلاقتنا أولية لم نفترق إلا عند سفره إلى ليبيا مرافقاً لزوجته التي انخرطت في سلك التعليم بالجماهيرية، وقضى هناك زهاء العشرين عاماً كانت خصماً على عمره الفني، لأنه غادر الوطن وهو في أوج توهجه الفني، وعاد ليجد الساحة تمور بفنانين جُدد وموسيقيين جدد، وبدأ في البحث لاستعادة موقعه في سماء فن الغناء.. بالطبع كنا نحن أقرانه أول المحتفين بمقدمه، وبرغم صعوبة استعادته لمكانته المرموقة الأولى إلا أننا كنا على يقين من أنه لابد أن يستعيدها ولو بعد حين لأن “سلام” كان موهوباً يمتلك صوتاً نسيج نفسه، هذا بجانب موهبته في تأليف الألحان وثقافته الموسيقية.. لم يغب عن دار الفنانين بالموردة إلا لظرف طارئ برغم أنه من سكان أم دوم، وبدأ تمارين شاقة في الأداء الصوتي وحشد أصدقاءه من الموسيقيين في تلك التمارين وعرض عليهم إنتاجه الجديد.. في ليلة وفاته أعادت إذاعة (ساهرون) حلقة لساعتين فاستمعت إليها بصعوبة وإلى الحوار الذي أجريته معه.. تحدث عن طموحات وأشواق ومرامٍ كان ينشدها، وغنى كما لم يغن من قبل.. وتحدث حديث الفنان الكبير الواعي بدوره تجاه مجتمعه، وحمدت الله أن إذاعة (ساهرون) قد احتفظت بالتسجيل وثيقة للأجيال القادمة.
الراحل “سلام” قدم إلى الخرطوم ليلعب في فريق الهلال العريق، فقد كان لاعب كرة ويجيد الغناء منذ سنوات دراسته بمدينة مدني، وتشاء الأقدار فتُكسر رجله في تمرين فيهجر كرة القدم التي كان بارعاً فيها، ويذهب إلى ساحة الغناء والموسيقى فيبرع أيضاً في هذا المضمار، وتشاء الأقدار أن يرحل عنا وفي نفسه مشروعات إبداعية لم تكتمل- يرحمه الله.. كان يعدّ الفنان الراحل “خليل إسماعيل” قد قدم له شهادة حينما غنى أمامه أغنية (في مسيرك يا الحبيب) وهي من أغاني “خليل” الرائعة.. وقتها كان طالباً بالمرحلة الثانوية، وبعد أن أجاز صوته بالإذاعة السودانية شهد له عدد مقدر من نجوم الغناء، وهو يمت لشاعر الحقيبة “المساح” بصلة قرابة، لذا تكمن في جيناته موهبة الغناء.. وهكذا رحلة حياة البشر، منهم من يترجل عن صهوة الحياة وهو في ميعة الصبا، ومنهم يبلغ أرذل العمر، والسعيد من يترجل تاركاً آثاره الطيبة في النفوس، مثلما فعل “محمد سلام”.. ويظل الموت حقيقة الوجود الكبرى التي تطال كل إنسان في الحياة بعمره المحدود القليل.
رحم الله من رحلوا من قبيلة المبدعين، فرحيلهم لا سيما في أعمار مبكرة يدمي القلب، والعزاء أن لكل أجل كتاب وكل من عليها فان.. وأنا أكتب هذا المقال استدعت ذاكرتي رحيل الفنان الموسيقار “عبد الله أميقو”.. مات أيضاً فجأة بعد حفل زواج شقيقه الأصغر، وقد أصر على تزويجه أولاً!! رحل في نفس أمسية زفافه في برش الصلاة بنادي الفنانين وهو في مقتبل العمر، تاركاً مشاريع موسيقية عديدة بدرج مكتبه، وسيرة عطرة نجترها نحن زملاؤه الذين ربطتنا به أواصر الإبداع والصداقة.. وخطر بذهني رحيل الصديق الفنان “خوجلي عثمان” بدار الفنانين بعد أن طالته سكين جانٍ.. والراحل الصديق “زيدان” بعلة تليف الكبد.. والراحل “عبد المنعم حسيب” بحادث مروري بكوبري شمبات بعد أوبته من اغتراب بالسنين.. والراحل “الأمين عبد الغفار”.. والراحل “عبد المنعم الخالدي”، وملحن أغانيه “سليمان أبو داوود” يموت فجأة عند صلاة العصر بمسجد حيهم.. وعدد من المبدعين رحلوا في أوقات متقاربة- سبحان الله الذي جعل لكل أجل ميقات معلوم.. اللهم يا رب العالمين ارحمهم رحمة واسعة وأجعل البركة في أهلهم.
تجاني حاج موسى: صحيفة اخبار اليوم
[/JUSTIFY]