رأي ومقالات

محمد التجاني عمر قش : جنوب السودان بين جحيم الزعامة والقبلية!

[JUSTIFY]والظلم فرّق بين حيي وائل بكر
تساقيها المنايا تغلب
من يقرأ هذا البيت للشاعر الجاهلي طَرَفَة بن العبد، يظن بداهة إنما يتحدث الشاعر عن واقع المجتمعات الإفريقية المعاصرة، وليس عن تلك القبيلة العربية التي أفنتها الحروب، حتى لا نكاد نحس منهم من أحد أو نسمع لهم ركزاً. فقد جعل الشاعر الظلم أساً للبلوى وسبباً للحروب، علاوة على زرعها الفتنة بين من يظنهم الناس حلفاء لا تفرقهم حادثات الليالي، ولكنهم صاروا يساقون بعضهم المنايا سجالاً، فتزهق أرواح الأبرياء والعزل حتى يستمر الزعماء في ممارسة لعبة السياسة التي لم تنتج إلا دماراً وقتلاً وفساداً أتى على الأخضر واليابس في كثير من بقاع القارة السمراء، التي اُبتليت بطامعين في السلطان، دون أن يكون لديهم مؤهل أخلاقي وقيمي يدفعهم للقيام بواجبات الزعامة ومتطلباتها، فلعمري لإن كان هم المرء لا يتجاوز بطنه وجيبه، فباطن الأرض خير له من ظاهرها، ومن المؤسف أن كثيراً من زعماء إفريقيا لم يستطيعوا حتى الآن الخروج من هذه الدائرة الخبيثة، ولذلك كثرت الزعازع وتفشى الجهل والمرض والظلم والفساد.

وما يحدث في جنوب السودان الآن ليس استثناءً مما يجري في بلدان إفريقية أخرى، فحيثما نظرت إلى محطات التلفاز، تشاهد أخبار القتل والتشريد والنزوح الجماعي، فرب أم ثكلى تبكي وليدها الذي لم يكمل عامه الأول بعد، وأخرى حبلى تمني نفسها بأن تسمع صوتاً يناديها يا ماما، وهي تهرب طلباً للنجاة، فتصيبها رصاصة طائشة تقضي على أملها في الحياة، وشيوخ وأطفال يهيمون بين الغابات بلا مأوى ولا زاد، والدم الإفريقي مسفوح على الأرض، وفي الطرقات وأزقة المدن، بطريقة تشمئز لها الفطرة البشرية السليمة، والنسور تنهش جثث القتلى، الذين قد لا يكون لهم في تلك الحوادث ناقة ولا جمل، بل جعلتهم القبلية والجهوية وطموحات الزعماء وقوداً لحرب لا يعلم مداها إلا الله!

وهل يا ترى أن ما يحدث هو مصداق لزعم المستعمر الأوروبي الذي وجّه جيوشه نحو إفريقيا في القرن التاسع عشر الميلادي بحجة أن الأوروبي هو حامل مشاعل النور الذي سيخرج إفريقيا من ظلام الجهل والتخلف إلى عالم الحضارة والاستنارة، لأن الأفارقة لا يجيدون حكم أنفسهم ولا يملكون القدرة على ذلك، أم أن أوروبا مازالت تدير الشأن الإفريقي عبر عملائها الذين تربوا على يديها فعلمتهم لغاتها وألبستهم زيها وجعلتهم يتحكمون في مصائر شعوبهم نيابة عنها، كمن يمسك برأس البقرة ويترك غيره يحلبها! فالكل يعلم ما بذلته الدوائر الغربية عبر شراكتها مع «الإيقاد» إبان محادثات نيفاشا التي أدت لانفصال جنوب السودان، ولكن ما لبث الوضع في الدولة الوليدة حتى تحول لمأساة إنسانية يندى لها الجبين وترق لها القلوب الرحيمة، بيد أنه لم يطرف لقيادات النزاع جفن إزاء ما يحدث لمواطنيهم، فما يهم كلاً منهم هو كسر شوكة الآخر ليخلو له الجو وينفرد بحكم هذه البلاد كاملة الدسم، نظراً لما تتمتع به من موارد طبيعية من ضمنها النفط والماء والأرض البكر!

وها هي «الإيقاد» تعود مع شركائها، وتظهر على مسرح الأحداث، ويطير مفاوضوها إلى أديس أبابا، ويدلفون إلى ردهات فنادقها الفارهة، تحيط بهم أجهزة التصوير والتسجيل ورجال الصحافة والإعلام، بحجة أنهم يسعون لوضع حد للحرب ووقف العائديات، بينما تستمر رحى الحرب في طحن شعب دولة جنوب السودان المغلوب على أمره. ووسط هذه المأساة تتدفق موجات النازحين على حدود الشمال ويفتح السودانيون أذرعتهم بكل كرم ونبل لاستضافة إخوتهم من الجنوب الشقيق، ليس هذا فحسب بل إن السيد رئيس الجمهورية عمر البشير قد أمر بأن يعامل النازحون على أنهم مواطنون لهم كامل الحقوق! ونحن لا نمتن بهذا، حاشا لله، ولكن نود أن نسأل الذين كانوا يقولون إن الشمال يضطهد الجنوبيين، كيف بالله عليكم يلجأ شخص لمن يضطهده؟ إن تلك حجة داحضة، ودعاية زائفة قصد منها تحقيق مآرب جاءت كارثية بكل المعايير الإنسانية! فماذا فعلت «الإيقاد» عندما كان باقان ورفاقه يهرّبون أموال الجنوب إلى حساباتهم الخاصة خارج حدود وطنهم، ويشترون الأسلحة والذخائر التي تستخدم الآن ليقتل الجنوبيون بعضهم بعضاً؟ وهل شهدت دولة جنوب السودان قيام مشروع تنموي واحد، وهل شيدت مدرسة أو مستشفى أو طريقاً خلال الفترة منذ استقلالهم المزعوم وحتى نشوب الحرب بينهم؟

ومن قبل لجأ أهل الجنوب إلى الشمال وانداحوا في مدنه حتى بلغوا دنقلا شمالاً، ولم يضايقهم أحد بل عاشوا آمنين في وطنهم، والتحق أطفالهم بالمدارس، وعندما وجدوا حسن المعاملة وطيب المعشر، اعتنق كثير منهم الإسلام، وصاروا يتحدثون العربية دون ضغط من أية جهة كانت شعبية أو رسمية. ويدل هذا دلالة واضحة على عمق العلاقة بين شعبي البلدين، مع فوارق لا ينكرها إلا مكابر، ولكن قادة الحركة الشعبية، يدفعهم الطموح السياسي، وقد زين لهم أبالسة البشر، من أمثال هيلدا جونسون وكونادليزا رايس، أمر الانفصال، فسعوا إليه وهم يدركون ما ينتظرهم من مشكلات اجتماعية وسياسية وأخلاقية ليس من السهل حلها بين طرفة عين وانتباهتها! ولكنهم كانوا ملزمين بسداد ديون تراكمت عليهم بسبب علاقاتهم المشبوهة ببعض الدوائر التي لا ترغب إلا في مصالحها المتمثلة في السيطرة على الموارد الطبيعية، حتى تدور عجلة الاقتصاد في بلدانها، ولتحترق الشعوب وتهلك، مادام الأمر في مجاهل إفريقيا بعيداً عن عواصم الغرب.

فقد رأينا كيف توجهت فوهات المدافع، وتحركت الآليات العسكرية تدك مدن الجنوب، وسط صيحات الحرب ودقات طبولها، ليست ضد الشمال هذه المرة، بل إن المعارك قد نشبت في أكثر من موقع بين قبائل الجنوب المختلفة، وداخل جيش الحركة نفسه، وكل ذلك من أجل تحقيق مطامح شخصية وتسديد فاتورة ظلت قائمة منذ التمرد الذي كان يمني الناس بالسودان الجديد الذي سيكون جنَّة الله على الأرض، ولكن ما يحدث الآن ينفي هذا الزعم جملةًَ وتفصيلاً.

صحيفة الإنتباهة
[/JUSTIFY]