رأي ومقالات

محمد سيد أحمد المطيب : صلة الدين بالسياسة من عهد «الدغمسة» إلى عصر «الوثبة»

[JUSTIFY]إذا كانت الوثبة المزمعة والمفاجأة المرتقبة التي بشر بها حزب المؤتمر الوطني الحاكم كما عبر عنها رئيس الحزب رئيس الجمهورية المشير عمر البشير قد جاءت مشتملة على قضايا الحرية والهوية الحضارية الوطنية والاقتصاد والسلام، فإن القضية المحورية الجامعة لكل هذه القضايا وغيرها من الأمور والشؤون الدستورية الأساسية الأخرى تبقى هي تلك المتعلقة بصلة الدين بالسياسة أو العلاقة بينهما.

وكما هو معلوم فقد ظلت هذه هي القضية الرئيسة التي ظلت تفرض وتطرح نفسها بقوة شديدة الوطأة على الدول الإفريقية والآسيوية العربية وغير العربية والإسلامية وغير الإسلامية، وكذلك على الدول اللاتينية في سعيها للنهضة المستقلة منذ أن تخلصت من الخضوع للاستعمار الأوروبي المباشر لها في النصف الثاني من القرن الميلادي العشرين الماضي وحتى الوقت الحالي، مثلما ظلت تفرض وتطرح نفسها على كل الدول الأخرى عبر المسيرة الإنسانية للبشرية بأسرها منذ بدء الخليقة، وستظل هكذا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وتنتهي الحياة الدنيا الفانية لتبدأ الآخرة الخالدة. وفي بلادنا هذه على وجه الخصوص فقد ارتبطت الممارسة السودانية للسياسة بهذه القضية الأزلية والمصيرية منذ نيل السودان للاستقلال من الاستعمار البريطاني، بل وقبل ذلك منذ عهد الدول السودانية السابقة بما فيها دولة الثورة المهدية، وقبلها دولة الفور، وسلطنة سنار ودولة المسبعات، بل ومملكة كوش ونبتة وسوبا والمقرة وغيرها.

وإذا كان ذلك كذلك فربما قد يصح القول إن هذه هي القضية الأبدية والمستعصية التي ستفرض وتطرح نفسها بحدة على المناظرة والمنافسة المزمعة والوثبة المفاجأة التي دعا لها حزب المؤتمر الوطني، ووجدت استجابة متفاوتة ومتباينة من جانب القوى الوطنية الأخرى، على النحو الذي أتى بصورة يمكن وصفها بأنها استجابة إيجابية ومتجاوبة من جانب كل من حزب الأمة والحزب الاتحادي والمؤتمر الشعبي، بينما جاءت مترددة ومتخوفة ومتشككة في المعنى والمغزى الذي تنطوي عليه الدعوة لمثل هذه المناظرة والمنافسة مثلما برز من جانب القوى اليسارية بصفة عامة وعلى صدارتها وفي المقدمة منها الحزب الشيوعي السوداني المتلاشي.

وعلى العموم وفي سبيل المساهمة المتواضعة في المناقشة المفتوحة والمطروحة والمقترحة للهموم المتعلقة بهذه القضية المحورية والمصيرية والأزلية والأبدية، فقد رأيت أنه ربما قد يكون من المفيد أن نشير بهذه المناسبة لما ورد بشأنها في كتاب الباحث المصري المتميز يوسف زيدان الذي صدر عن دار الشروق للنشر في القاهرة منذ عام 2009م، وظل يصدر في طبعات متوالية ومتتالية حتى بلغت الطبعة السادسة التي صدرت في عام 2012م المنصرم تحت عنوان «اللاهوت العربي وأصول العنف الديني».

وكما ذكر الباحث المصري في كتابه المشار إليه فإنه يحلو لكثير من مفكرينا المعاصرين ترديد ما فحواه أن الدين ينبغي أن يظل بعيداً عن السياسة، وتظل السياسة بمنأى عن الدين، فهذا هو ما يزعمون ويبشرون به وكأنه الاستنارة الباهرة، أو حسبما صاروا يسمونها أخيراً «العلمانية»، وهي لفظة ملتبسة الدلالة كانت تعني في اليهودية معنى خاصاً هي صفة اليهودي غير المتدين الذي يظل مع عدم تدينه يهودياً لأن أمه كانت يهودية. ثم صارت العلمانية تعني في المسيحية الاتجاه المعني بالعمل في العالم وليس بالخدمة الكنسية ولكن من دون أية إدانات صريحة لمن هو علماني من المسيحيين بهذا المعنى. لكن الكلمة صارت تعني عند المسلمين الإلحاد والكفر والزندقة والخروج عن الدين والردة.

ويضيف الباحث المصري: إنني لن أخوض في تعريفات العلمانية واتجاهاتها العديدة المختلفة، ووجهات النظر المتخالفة بصددها، وإنما مرادي هو الإلماح إلى أن الفصل بين الدين والسياسة سيبقى دوماً مثلما كان دائماً محض توهم تبدده حقائق التاريخ العقائدي للديانات الرسالية الإبراهيمية التوحيدية الثلاث التي امتزج فيها الدين بالسياسة امتزاجاً شديداً يصعب معه في كثير من الأحيان تمييز ما هو سياسي مما هو ديني. ففي مرحلة اليهودية الأولى ظل الواقع السياسي يوجه الدين، ابتداءً من كتابة التوراة بعد فعل سياسي واجتماعي شهير هو السبي البابلي ـ وانتهاءً بالاستخدام النفعي للديانة اليهودية كشعار سياسي تم على أساسه إعلان دولة إسرائيل. وما سعيهم اليوم لاخلاء الأرض من سكانها العرب المسلمين والمسيحيين إلاّ تلبية للأمر الإلهي القديم المزعوم لدى اليهود. ولعله من المناسب للدلالة على ارتباط العقيدة بالواقع الفعلي في التاريخ اليهودي القديم والمعاصر، أن نشير لمقطع بديع من قصيدة «مديح الظل العالي» وهو المقطع الذي يقول فيه الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش في قصيدته البديعة:

يخرج الفاشي من جسد الضحية
يرتدي فصلاً من التلمود:
أقتل كي تكون.. عشرين قرناً من الجنون
عشرين قرناً كان سفاحاً معمّم
عشرين قرناً كان يبكي، أو كان يحشو بالدموع البندقية
عشرين قرناً كان يعلم أن البكاء سلاحه السري والذرّي

ويضيف الباحث المصري أنه في الإسلام ما كان الدين ليتم نوره لو ظل القرآن على حاله المكي الأول أو بقي المسلمون الأوائل على حالهم الموصوف بأنهم «مستضعفون في الأرض»، وهل كان من الممكن للإسلام أن يصير إلى ما صار إليه لولا جهاد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وانهماكهم في الدعوة للدين، وفي حرب المشركين، ومن بعدهم المرتدين. ناهيك عن الانهماك في التحالفات، وعقد المعاهدات، وكتابة المراسلات وتنظيم الجيوش.

أما عن المسيحية فيشير الباحث المصري إلى الذهب الأصفر البراق الذي يكسو الكاتدرائيات والبابوات، وإلى كيف صار الرهبان يتقاضون رواتب شهرية، وصارت النفقات الكنسية الباهظة تغطي من ميزانيات ضخمة تتحكم فيها الجهات المسيحية الرسمية.

تنويه واعتذار: نتقدم بالاعتذار لسيادة النائب الأول لرئيس الجمهورية الفريق أول بكري حسن صالح، وذلك عن الخطأ الكبير الذي وقعنا فيه أمس بأن الرتبة العسكرية لسعادته هي رتبة اللواء، وله العتبى حتى يرضى.

صحيفة الإنتباهة[/JUSTIFY]