حباب النعمان : جدل الاصلاح السياسي من التجريد إلى التجريب
يرى أن السودان الذي سبق ثورات الأعاريب بنحو أربعة عقود ونصف ينعم الآن بالعيش في ظل ثورة المشروع لا مشروع الثورة، في خضم هذه الحماسة الغامرة أخذ يتشكل موقف ثالث لا يرى الحل في الحل وإنما في تحويل الأزمة المزمنة إلى فرصة تفسح المجال لدينمائية الإصلاح الذاتي والشراكة السياسية بين أطياف واسعة من الأحزاب السودانية..أميز ما في هذا الإتجاه إنه صار ينظر إلى الإصلاح بصورة أكثر تعقيداً وشمولاً مما هو مطروحاً في الأدبيات السياسية السودانية حين ربط بشكل وثيق بين مسار الإصلاح داخل الأحزاب رأسياً والمسار الأفقي للعلاقات البينية سواء على صعيد الشراكة في الحكم أو المنافسة عليه وفق الأصول والقواعد المرعية . .
وقد كان من بركات هذه الجهود المثابرة المناقشة النظرية لأهم محورين من تجليات أزمة الرؤية والتنظيم في الأطر الحزبية المختلفة .. المحور الأول هو مؤسسة التنظيم أي إحلال ذكاء الأنظمة محل ذكاء الأشخاص..وبالتالي تحوير السمة الغالبة للسياسة السودانية التي وصفها نقد بأنها ضرب من الحذاقة والتلاعب و(الحرفنة) إلى ما ينفع الناس ويمكث في الأرض..المحور الثاني هو أنسنة القيادات بمعنى النظر إليهم لا بوصفهم ملائكة!! وإنما بوصفهم طائفة من عقلاء النوع الإنساني مكتنفون بفتنة الشياطين وتأييد الملائكة، ومتنازعون بين حمأة الطين وسمو الروح، وهذا ما جعل بعض الأصوات المنادية بتغيير قيادات إمتطت صهوة أحزابها منذ أكتوبر 1964م تجد آذاناً صاغية وأذهاناً واعية ..
ومع أن واقع الإضطراب داخل الأحزاب وإضطراب الواقع خارجها قد أسهم في تكريس الأزمة السياسية المتطاولة، إلا أن كثيراً من النقاد يميلون إلى تحميل المؤتمر الوطني الكفل الأكبر من حالة التشظي الرمزي والفعلي التي تجتاح البلاد كونه غير قادر ولا راغب في إجراء إصلاح حقيقي ينتشل البلاد من هول الهاوية التي يمكن أن تتخطفها إلى مكان سحيق، لأنه حسبما يرى خالد التيجاني النور يعاني من متلازمة أعطاب بنيوية متصلة بطبيعة نشأته عبر إنقلاب ظاهره عسكري وباطنه مدني أفنى حركة إسلامية كاملة في بضع أشخاص يديرون كل شيء من وراء حجاب، هذا في ظل غياب رؤية كبيرة جامعة ومشروع طموح جامح، فلم يتبق من لعبة ناظمة غير البقاء على السلطة، وهو الأمر الوحيد الذي تجيده المنظومة القابضة بذكاء تحسد عليه، وقد تطرّق محلل آخر إلى ملاحظة نمط خفي من التحاذق الذي يمارسه النظام حين يوهم الأحزاب بإشراكها في الحكومة، وفق أنصبة مجزية مقابل إستثاره هو بالسلطة المطلقة نفوذاً وقراراً وفعلاً، وهذا ما يتضح جلياً في قصر أمد الشراكات مع إستثناء ضئيل يتصل بمهارة الشريك في النفاذ إلى دائرة الإخراج وعدم إكتفائه بمهام التمثيل، وهو أمر نادر الحدوث ، ولأن الشاذ يؤخذ به، ولا يقاس عليه، فقد بلغ خطاب الإصلاح داخل الأحزاب وخارجها مدى لا تخطئه عين عاقل، فصار المؤتمر الشعبي مثلاً يناقش بقاء الترابي على أريكة الأمانة زماناً مديداً واستعصم لفيف من قواعد الاتحادي برفضهم تأييد الشراكة مع الوطني، وتذمرت قطاعات واسعة في حزب الأمة من استئثار الإمام الملهم بدائرة القرار والفعل، أما المؤتمر الوطني فقد بدأت موجات النقد تتصاعد قبيل مؤتمره العام، وما أفرزته من إسقاطات داخل المنظومة الممسكة بمفاصل القرار التي تجلت أعلى مراتبها في خروج بعض القيادات النافذة بفعل التغيير أو لأجله ..
مع اتساع دوائر الاستعداد للاصلاح والمصالحة وترتيب المجتمع السياسي على أسس جديدة على خلفية الموجهات العامة التي أعلنها الرئيس في خطابه الأخير.
حتى الآن يبدو التغيير الجزئي الذي تم ناقصاً ومفتقراً لما بعده ، ورغم أنه أتى على عناصر مهمة في سياق الفعل السياسي وصنع القرار وإدارة موازين القوى داخل منظومة السلطة وفي إطار المجتمع السياسي المحالف والمنافس، ومع ذلك فإن التجاوب الذي وجدته دعوة الاصلاح على إبهامها وغموضها يعتبر معقولاً جدًا، سيما من قبل المؤتمر الشعبي الذي حذر أمينه العام الدكتور الترابي من عواقب تشظي البلاد وانفجارها على وقع الانتفاضات التي انتظمت المنطقة مؤخراً مرجحاً فرضية توحد البلاد من جديد، وإرجاع الجنوب إلى سابق عهده .. وقد بدا الترابي واثقاً من إنجاز صيغة انتقالية تجنب البلاد مزالق التشظي والانهيار .. ومن أجل حدوث ذلك يحتاج الأمر لمزيد من التنازلات ولكثير من الجرأة .. وفوق ذلك إلى حشد الإرادة، وحشوها بقيم التجرد، ومراعاة المصالح العليا، ودرء المفاسد الكبرى التي تكتنف العملية السياسية، وتهدد فرص استقرارها واستمرارها ليس أولها تسيّس الهوية ولا آخرها تسليح السياسة ..
صحيفة آخر لحظة
ت.إ[/JUSTIFY]