رأي ومقالات

مصر أم الدنيا التي تحتضن مرضى السودان

(نورت مصر) عبارة تجدها منذ أن تطا قدماك مطار القاهرة وحتى تعود منه إلى ديارك.. وفي خواتيم الشهر الماضي (نورنا مصر) ومعنا آلاف من أبناء السودان القليل منهم ذهب للتجارة والسياحة وقضاء إجازة رائعة في أم الدنيا، ولكن الكثير من القادمين لقاهرة المعز لدين الله كان بدواعي العلاج من الأمراض التي استعصت على أطباء السودان ومستشفياتها، شعرت بالحزن العميق والإحباط وأنا بداخل طائرة الخطوط المصرية مرافقاً لوالدي المريض بداء السكر بعد أن بتر أطباء السودان (أصبع) رجله شعرت بالإحباط وأنا أرى أن نصف ركاب الطائرة تقريباً من الطالبين للعلاج في (أم الدنيا) ويختارون الخطوط المصرية دون السودانية التي ضاعت في زحمة الكثير من الأشياء التي فقدناها خلال السنوات الماضية، وقبل أن نحكي عن القاهرة وعلاجها وتطورها في كل شيء، فلنتحدث قليلاً عن السودان وهروب المرضى من مستشفياته وأطبائه.

وبحكم تجربتي مع مرض والدي في رحلة علاجه والتي اعتبرها حالة الكثير من مواطني السودان البسطاء الذين يريدون أقل واجب للدولة اتجاههم وهو العلاج، ولكنهم يواجهون بالإهمال والتردي المخيف للخدمات الطبية. بدأت رحلة علاجنا بمركز جابر أبو العز المتخصص في جروح السكر وظللنا لفترة فاقت الثلاثة أشهر في غيار للجرح الذي ظل يسوء يوماً بعد الآخر دون أن نجد تشخيص يحدد سبب عدم التئام الجرح، فتحولنا من ذاك المركز إلى اختصاصي عبر عيادة خاصة في حي جبرة ونصحنا ذاك الطبيب بالتوجه إلى مركز الديربي للعلاج بالأكسجين ولم نعلم حينها أن هناك بعض شرايين الرجل مغلقة وتحتاج (للتسليك) كما يقول مصطلح الأطباء، وفي الديربي قابلنا الأطباء المتخصصين وقالوا لنا إن الوالد يحتاج إلى عشرين جلسة أوكسجين كحد أقصى وبعدها سيتم شفاء الجرح علماً أن الجلسة الوحيدة لذاك الأوكسجين تكلف المائة وثلاثين جنيهاً وقالوا لنا إن هذه الجلسات تساعد على فتح الشرايين مهما كان إغلاقها، فتوكلنا على الواحد الأحد وبدأنا الجلسات المصحوبة بالغيار للجرح في ذات المركز والذي تبلغ كلفته ثلاثين جنيهاً، وانتهت العشرين جلسة وطلب من أطباء المركز المواصلة في الجلسات حتى وصلت إلى أربعين جلسة أوكسجين والجرح في حاله، بل أخبرونا أنه لا بد من بتر الأصبع حتى تشفى الرجل من الجرح وبعدها نصحنا أحد أطباء المركز بمقابلة الدكتور محمد محمود وهو اختصاصي جراحة السكر ويعمل في السلاح الطبي ومستوصف علياء، وبالفعل قابلنا العميد طبيب محمد محمود في مستوصف علياء وبعد أن طمأننا على أصبع القدم، قال لنا لا بد من إجراء صورة موجات صوتية للرجل في السلاح الطبي وبعد أن رأى الصورة أكد لنا أن هناك انسداداً في شرايين الرجل اليمنى وبعدها طلب منا إجراء صورة أشعة مقطعية وفعلنا ذلك وحينما ذهبنا إليه في مركز علياء في مساء الخميس من بدايات الشهر الماضي طلب إجراء عملية ضرورية وهامة جداً لنظافة الرجل من الصديد وحدد يوم الجمعة الساعة التاسعة صباحاً لإجراء تلك العملية بمستشفى الصفاء بحي الطائف بالخرطوم وقال لنا لا بد أن يأتي الوالد صائم، وبالفعل تحركنا صباح الجمعة وظللنا في انتظار الدكتور حتى وصل قبل الظهر وادخل الوالد إلى غرفة العمليات باعتبارها عملية نظافة للرجل إلا أنه فاجأنا بضرورة بتر الأصبع ووافقنا على البتر آملين أن يتم الشفاء، وبعد أن خرج من العملية طلب منّا ضرورة إحضار الوالد في مساء السبت ولخمسة أيام متتالية لإجراء الغيار بمستوصف علياء، وقال لي لا بد أن نتصل به قبل الحضور حتى لايتأخر علينا فاتصلنا به وحدد لنا ساعة الحضور ولكنه تأخر عن الزمن قرابة الساعة واعتذر عن التأخير، وقبلنا الاعتذار وبعد الغيار للجرح حدد لنا الأحد للحضور وحينما اتصلت به مساء الأحد حدد لي زمن الحضور، ولكن قبل ذاك الموعد اتصل بي واعتذر عن عدم مقدرته للحضور لأسباب قاهرة وطلب مني إحضار الوالد مساء الإثنين، ولكن من تلك الليلة وحتى مغادرتنا للخرطوم لم يرد دكتور محمد، على الهاتف وكانت النتيجة التهاب حاد للجرح بسبب عدم المتابعة، وهذا الالتهاب شخصه أحد أطباء مركز الديربي الذي عدنا إليه لمتابعة النظافة إلى حين الانتهاء من إجراءات السفر للقاهرة، وكلفنا ذاك الالتهاب حُقن مضاد حيوي كانت تحقن للوالد يفوق سعر الواحدة منها «الثلاثمائة وخمسين» جنيهاً، فتركنا متابعة دكتور محمد محمود الذي أجرى عملية البتر ولم يتابعها وظللنا نبحث عن ضرورة إجراء عملية القسطرة الطرفية، ولكننا تفاجأنا بواقع مرير يعيشه كل من يريد إجراء هذه العملية وهو عدم توفر المواد التي تستخدم في العملية إلى جانب عدم توفر أجهزة القسطرة الطرفية عدا في مستشفيات تقل عن عدد أصابع اليد الواحدة، فتوكلنا على الله وتوجهنا لمستشفى الزيتونة وطالبونا بتكلفة قد تفوق «العشرين» ألف جنيه بعد الفحوصات والأشعة، وحينها قررنا التوجه لقاهرة المعز طلباً للعلاج هناك.

منذ وصولنا للقاهرة وحتى مغادرتنا ظللنا نحمد الله كثيراً على قرار السفر وهناك اكتشفنا أن عملية بتر أعضاء الجسم بسبب داء السكر لا تحدث إلا في السودان والكثير من مرضى السودان الذين قرر الأطباء عملية بتر لرجله وتوجه للقاهرة عاد وهو معافى من الجرح، وهذا حقيقة مؤسف ولا بد لوزارة الصحة من مراجعته وإيجاد الحلول له، وهو بسبب سوء التشخيص في السودان؟ ولماذا يلجأ أطباء السودان للبتر طالما أن هناك وسائل أخرى للعلاج؟ وحتى متى سيظل أهل السودان يطلبون العلاج من القاهرة؟

بعد وصولنا للقاهرة بأسبوع واحد فقط كان الأطباء شخصوا الحالة ووضعوا العلاجات اللازمة للشفاء والتي بدأت بعملية قسطرة طرفية في مستشفى محمود بالمهندسين والتي دخلنا إليها دون أن يطالبنا أحد بوضع (تأمين) للعلاج أو مقدم للعملية والإقامة في المستشفى وبعد انتهاء العملية سلمنا الطبيب تقريراً طبياً شاملاً ومرفقاً معه كل الفحوصات التي أجريت للوالد وقرص «سي دي» به العملية وهي مصورة عبر كاميرا فيديو بعد فقط قدم لنا فاتورة تلك العملية التي تقل كثيراً عن تكلفة مستشفى الزيتونة.. وبعد تلك العملية قرر الطبيب ضرورة إجراء عملية نظافة للرجل التي كانت منتفخة حتى بعد عملية نظافة دكتور محمد محمود فأجرينا العملية الثانية بمستشفى القصر العيني الفرنساوي والذي يدهشك بنظافته وترتيبه ودقة الأطباء والممرضين في ذاك المستشفى، وبمجرد الانتهاء من تلك العملية عادت الرِجل إلى حالتها الطبيعية.

وأثناء وجودنا في القصر العيني لاحظت العدد الكبير من السودانيين الذين يتلقون العلاج في ذاك الصرح الطبي الضخم، فتذكرت مستشفى الخرطوم وتفريغه من الأقسام المختلفة والهرج والمرج الذي يحدث في أكبر مستشفى في السودان، فقلت في دواخلي ماذا يفعل البسطاء من أهلنا الذين لا يملكون المقدرة على الخروج من السودان طلباً للعلاج؟ ماذا يفعل أهلنا في الولايات الذين يبحثون عن العلاج الناجع وبعضهم يموتون من الإهمال وانعدام العناية؟ وتمعنت في الذين يقدرون على إنقاذ مرضاهم بالسفر للقاهرة للعلاج وكم من الأموال التي يضخها أهل السودان في خزينة مصر يومياً، فعلى الرغم من تأثر السياحة في مصر بعد الثورة وبالتالي تأثر الدخل القومي لمصر إلا أن السودانيين لم ينقطعوا عن أم الدنيا في أشد أوقات الأزمة وظلوا يدعمون دخل مصر القومي، وبحسبة بسيطة جدًا لكم أن تتخيلوا الأموال التي يضخها أهل السودان في خزينة مصر فإذا كانت الخطوط المصرية تسيِّر يومياً أربع رحلات تقريباً من الخرطوم للقاهرة، فإذا كانت الطائرة تسع لمائتين وخمسين راكباً فهذا يعني أن هناك ألف راكب يومي يتوجه للقاهرة، وأن حمل الواحد منهم فقط ألف دولار فإن هذا يعني أن هناك مليون دولار يومياً تذهب من الخرطوم للقاهرة يعني ثلاثين مليون دولار شهرياً، هذا بخلاف رحلات البواخر أو التجارة البرية، وإذا أدرجنا بقية رحلات الخطوط الأخرى مثل السودانية والصينية والإثيوبية ومارسلاند وتاركو ورحلات البواخر، قد نجد أن هناك عشر رحلات يومياً على أقل تقدير تتحرك من الخرطوم للقاهرة، فاذا وضعنا المتوسط فقط مائتين راكب في كل رحلة فإن هناك ألفين راكب يومياً يذهب للقاهرة وبذات معدل الأموال التي تذهب، فهذا يعني أن هناك اثنين مليون دولار يومياً يعني ستين مليون دولار شهرياً، تذهب للخزينة المصرية بطرق مباشرة وغير مباشرة من خلال انعاش الأسواق والمرافق الصحية والشارع العام من خلال العقارات والتكاسي والمطاعم وغيرها من الأشياء. وأكثر مالفت نظري في هذه الرحلة وجعلني أضع الكثير من الأسئلة والتي أرجو أن أجد الإجابة لها من الخطوط المصرية، هو فرض رسوم على كل مسافر سوداني ـ تصل إلى ثلاثين دولاراً للتذكرة ـ يريد أن يغير حجزه بالتقديم أو التأخير مع العلم أن بقية الخطوط لا تفرض مثل هذه الرسوم، وعلمت من مصدر ذو ثقة أن هذه الرسوم تفرض فقط على السودانيين دون الجنسيات الأخرى، وهذا عكس ما يتوقعه أي سوداني، حيث إن شعبي السودان ومصر افتراضاً هما شيء واحد، ويجب أن يعاملوا مثل أهل مصر وليس معاملة خاصة وقاسية، علماً أن الكثير من الذين يغيرون حجوزاتهم تكون لدواعي طبية وليس لأشياء أخرى.

عموماً.. نتيجة ما توصلت إليه من خلال هذه الرحلة المرضية هو أن الكثير من أرجل أهلنا في السودان بترت وكان بالإمكان العلاج دون البتر.. وأن الدولة تحتاج إلى وقفة متأنية لمراجعة مرافقنا الصحية وتوفير العلاجات اللازمة للبسطاء الذين لا يملكون إجراء فحوصات في لندن والأردن أو القاهرة التي تعتبر أقل تكلفة من السابقات، فهل لنا أن نحلم بمرافق صحية توفر الخدمات العلاجية كافة دون تدخل التجارة و(البزنس) في صحة مرضي؟ نرجو أن يتحقق ذلك، كما نرجو أن يتقي أطبائنا الله في مرضاهم.

صحيفة الإنتباهة
جعفر باعو
ع.ش

‫8 تعليقات

  1. حمد للة علي سلامة الوالد ,,, زي ما اوضحت المواطن البسيط بتمني ان يجد ربع الاهتمام داخل الدولة وليس خارجة
    لا نبخس قدر الدكاترة الوطنيين لاكن نعيب عدم الاهتمام منهم والمتابعة الشغوفة لحالة المرضي والاستعاضة دائمة بالمال والسؤال المتكرر عن الفاتورة وكيفية الدفع ,

  2. الخدمات الطبية في السودانية متردية الى الحضيض والسبب يرجع الى ان المنظومة الخدمية كلها تعاني من التردي ومن الاسباب التغيير الذي حدث في النسيج السوداني خلال الفترة الماضية انهارت المؤسسات الخدمية من تعليم وصحة وخلافه…تغيير الكفاءات ومحاربتها واقصائها وغياب الرقابة الادارية والمحاسبة وتخصيص الكثير من المرافق الخدمية العامة وهجرة العقول المستنيرة كلها أدت في النهاية الى الحال الراهن ..زكيف تكون نفقات العلاج في مصر أرخص واقل من السودان…ايجار الشقق في مصر اقل من السودان…الاكل…الملابس كله كله مش معقول يا جماعة…
    الذي يحدث في السودان لا علاقة له بالحرب ولا الاقتصاد ولا..ولا..لكن أزمة ضمير ..ازمة ضمير…لأن حجم الفساد غير المسبوق واكل اموال الناس بالباطل حل علينا غضب الله…الله المستعان…انه لمحزن ان يسافر السودانيون بطائرات البلاد المجاورة….أن يتعالج السودانيون في البلاد المجاورة..ان يستثمر السودانيون في البلاج المجاورة …ان يعيش السودانيون في الباد المجاورة…
    اعطوني منديلا لأجفف دموعي رحمكم الله…………..

  3. المقال مهم بصورة كبيرة ويوضح حجم التلاعب وعدم المسؤولية وغياب الضمير فى بلادى نسأل الله أن يديم علينا وعليكم نعمة العافية وأن لايوجنا وياكم للأطباء لا داخل ولا خارج السودان ولكن يظل السؤال الى متى يظل النزيف المالى لأموال المواطنين للعلاج فى الخارج والتدهور المؤسساتى للبلد وأموال البلد لتذهب خارج البلد بدل من أعادة تدويرها فى العجلة الأقتصادية للدوله لك الله ياوطن!!!!!!

  4. معظم اطباء السودان ياكلون اموال الناس بالباطل همهم كيف يتحصلون على المال اما المرضى فلهم الله يدعون على الاطباء صباح ومساء حسبى الله ونعم الوكيل

  5. اللهم ارحم اقدام الذين بتروا لعدم وجود التشخيص المناسب وهي السابقه والله لو دا صاح هنالك علاج بدل البتر يكون طبنا لسع ما توصل اليه نسال الله العافيه لمستشفياتنا ودكاترتنا الذين تجدهم في لندن ودول الخليج والعالم من اشطر الدكاتره والا عشان بعرفوا انجليزي بس الناس ديل لم يجدوا معينات للعمل والا لكان ابدعوا في الطب دا .

  6. للعلم الرسوم الانتا بتكلم عنها بكون على المصرين والاجانب وانا مصرى وبسافر كتير وفى حاله الغ الحجز او التئجيل بيتخصم ضريبه غير فى ضرائب اخره فوق التذكره فياريت توصل الصوره صحيحه للناس وما قلشى للسودين فقط علهم ضرائب ام المشكله هى مشكله بلدك لا تقحكم مصر بها

  7. [FONT=Arial Narrow][SIZE=5]مقالك جميل ومرتب…السياحة العلاجية اصبحت اهم مصادر للدخل في تايلاند وكوريا وسنغافورة وماليزيا ومصر وتونس والاردن ..هذه الدول لا تملك اي موارد سوي عقول فاهمة استشعرت اهمية التعليم المتخصص والانضباط الشديد في تقديم الخدمة فجلبت موارد مالية كبيرة لدولها عبر طرح سياسة الاستشفاء المميزة…اي مسئول في السودان يجب قبل ان يتحدث عن سياسات لضبط الدولار ان يتحدث عن سياسات لتوطين اسباب هجرة الدولار ومن اهمها العلاج والتعليم…..لك الله يا سودان…فقدت والدي ووالدتي بسبب الاخطاء الطبية في السودان وكرهت البقاء فيه بعد ذلك وادعو يوميا ان يجنبنا الله واياكم شرور الاطباء السودانيين والمستشفيات السودانية…..بالنسبة لفرض رسوم علي تغيير الحجز اعتقد ان كل الخطوط تفرض هذه القيمة وهي 100 دولار في القطرية والاماراتية….[/SIZE][/FONT]

  8. [B]لك التحية
    لقد اسمعت اذ ناديت حيا ولكن لاحياة لمن تنادي
    مقالك هذا لا يتعدي انه تنفيث عن ضغائن مريرة تحسها انت وغالبية من ابناء بلادي
    الفيلم الحزين الذي سردته حدث معنا بكل تفاصيلة نفس الاشخاص والامكنة الطبيب والمستشفي والديربي وكل التفاصيل عدا ان الضحية هو عم اولادي والنتيجة هي بتر اصبعين من الرجل اليسري هما الاوسطان الاول بعلم المريض واهله والثاني اثناء عملية نظافة قام بها نفس الطبيب بحجة ان الاصبع لا امل فيه ويخشي ان ينتقل التلف الي بقية الرجل وسلمنا كما يسلم غالبية المرضي في السودان الان هو تماثل للشفاء ولكن يخيل لك ان ارجل المريضة اضخم من الاخري ويكسوها اللون الاسود والطبيب يقول هذا طبيعي (احنا كنا وين وبقينا وين)
    وتقول لي مناشدة ومسئولين احنا لينا الله بس
    حسبنا الله ونعم الوكيل[/B]