حوارات ولقاءات

الشيخ مصطفى: (عايز حقي)

على الرغم من مرور ست سنوات على ذكرى غزوة أم درمان الشهيرة؛ ما يزال الشيخ عبد الله مصطفى، على رأي أضمره في نفسه يوم السبت 10 مايو 2008م بمقاضاة حركة العدل والمساواة حال عاود قادتها الظهور على المسرح السوداني بمقتضى تسوية سياسية. أما سبب استمساك الشيخ بليّ ذراع أصحاب (الذراع الطويل) من ثم سوقهم نواحي سُوَح العدل فمتصلٌ بمساواة أضرار جسيمة حاقت بمحله لبيع الأثاثات من جراء قصف وتدوين القادمين من (وراء الشمس). وذلك بعدما استعصم عن مد يده وأخذ التعويض الحكومي، عازياً ذلك لكون القوات النظامية اضطرت يومها حد تعبيره- للدفاع عنهم من عدو دخل أحياءهم جاعلاً بعضهم موتى، وعليه لا بدّ أن يكون التدواي بذات التي كانت هي الداء.

الشيخ الذي كان على وشك الدخول لمحطة الثلاثين العمرية يوم دخل خليلٌ أم درمان، لم يدرْ بخلده البتة أن محله الكائن في شارع الأربعين مع تقاطع العرضة سيكون محلاً لعرض حربي، اعتادت سود صحائف الخرطوم تخليده بصورة سنوية.
(الصيحة) وصلت الشيخ لتستعيد معه الذكرى الأليمة وذلك بأن خيمت على محله المكنى بـ (الشيخ العالمية للأثاث) داقة أوتاد تساؤلاتها عما جرى له في العاشر من مايو. ومع تساؤلاتنا بدت العصبية واضحة في حركة يده، وعقب ثوان أمضيناها نعلك الصمت وكأنما نحن مأمورون بأن نقف حداداً على ميت ما، رفع الشيخ رأسه من الأرض وشرع في سرد حكاية الغزوة الثالثة لأم درمان بعد غزوة محمد نور سعد 1976م والغارة الليبية التي استهدفت في العام 1984م مباني (هنا أم درمان).

إنكار بلا الحدود
ذّكرنا الشيخ ابتداء بالأحاديث القائلة باعتزام قوات خليل إبراهيم دخول الخرطوم، أحاديث سبقت الغزوة ولم يأخذها بجدية، جدية عازته لمرة ثانية حين بلغه اتصال من خاله المقيم في العرضة جنوب في ذات يوم (الهجمة) يخبره بوجود دوي مدافع وأزيز رصاص من ناحية (ليبيا) أو سوقها أيهما شئت، ومع رجاءات بثها الخال للشيخ بإغلاق محله بأسرع ما أوتي من قدرة، قرر الأخير اتخاذ (قرار بالنظر) عكسه في مقولة دسها في أذن شقيق والدته بان الحياة تسير بوتيرة هادئة في (الأربعين).

خيبة مضاعفة
عشر دقائق فقط من إنكاره لما يجري في أم درمان قولاً، وإتباع ذلك عملاً بإرسال أحد صبيانه لجلب وجبة غداء للعاملين في المعرض؛ فوجئ الشيخ باندفاع الأهالي كما المجانين في شارع مستشفى (التجاني الماحي) القادم من سوق أم درمان. الناس تجري في هلع بائن، والجمع المتدفق يولي الدبر مخافة شيء لم يكن الشيخ قادراً على فك طلاسمه.
الراكضون كيفما اتفق صرخ بعضهم في وجهه بتشنج بادٍ: (أغلق محلك)، آخرون هتفوا (أنْجُ سعداً، فقد هلك سعيد) وحين شرع في إغلاق محله فعلياً أطلت في كادر الصورة (تاتشرات) العدل والمساواة الكالحة، والمغطاة بسرابيل الغبار على بعد أمتار منه.
حينها فقط قرر الشيخ أن ينتظم في سلك المهرولين، مطلقاً لأقدامه الريح، وتاركا محله الذي بدا في إغلاقه بين مغلق ومفتوح، بينما كان بعض من أثاثاته مزجاة في مظلة خصصها للعرض الخارجي. هرول الشيخ بسرعة ربما بذات فعلة الضو الذي غادر بلدته خشية الفيضان قبيل عشرين عاما من 2008م، هروب مستلفاً لسان حاله من رائعة الراحل حميد: (بيَهِمَّك الروح مو القِرِشْ .. لاكين أمشْ) فمشى تاركاً محله، وذلك في غضون وقتٍ بدأت وتائر المدفعية تزيد من حمولاتها على (محطة الكهرباء) بين المهاجمين والمدافعين.

اللواذ بالجالوص
قرر الشيخ وبعض العاملين بمحله الاحتماء داخل منزل يضم مخزناً لأثاثاتهم بالقرب من المحل، وفي غرفة مبنية بـ (الجالوص) انتظروا مصيرهم المجهول لا سيما والقصف والرصاص فاقا تصوراتهم، وتفوقا على احتمال السقف المبني من مواد محلية الصنع، فانقاد إلى الهزيمة بأن بدا يخر عليهم من عليائه التراب.
وقبيل انقطاع شبكة الاتصالات، يقول الشيخ بورود عدة مكالمات لهاتفه في محاولة للاطمئنان على شخصه، وقطع أن معظم من سمعوا دوي المدافع ساعتها أخذوا من الجهة الأخرى لهاتفه يرددون الشهادة أو يلقنونه إياها لا فرق. وحين سقطت شبكة الاتصالات، قال إنه ادّكر بعد غفلة صلاة العصر فقرر الخروج إلى فناء المنزل والاحتماء بالركن الأعظم وليس التحصن بالجدر، وبالفعل توضأ وأدى العصر وبعد فراغه من تأدية الركعات الأربع، سمع تعالى أصوات الأهالي وخفوت أصوات المدافع.

موقف لا يحسد عليه
حينها استجمع الشيخ شجاعته وخرج إلى الشارع، قال إن عينيه أخبرتاه أن الاضطراب والفجيعة هما سيدا الموقف، ألسنة اللهب ارتفعت في السماء، وامرأة لطالما ارتشفوا قهوتها مصت شظايا المدفعية روحها فتكومت ميتة بالقرب من محطة الكهرباء، بينما تناثرت عدة عربات على الرصيف أو بمحاذاته ممارسة عادة التدخين بشراهة متناهية. ومع أن الناس تحركوا بلا وعي اتجه الشيخ لإدراك نواحي محله، ليجد مظلة العرض الخارجي بأكملها احترقت بتأثير عربة متفحمة جوار المعرض.
الرجعة للبيت
وبعد أن حمد الله على مصيبته، ترك الشيخ المظلة الخربة، وأحكم إغلاق مزاليج دكاناته الأربع، ثم سار بآلية ودون روح إلى حيث يقيم خاله، ومما زاده خواء وقتها الصورة المأسوية قُدام ناظريه وهو الذي لم يعرف الحروب والخراب والدمار إلا في شاشات السينما والتلفاز.
وبعد مسير طويل دفعته خلاله خطاه الآلية لقطع صف من عربات الحركة المتراجعة بالقرب من الخور المتجه إلى حي بانت، وعن ذلك العبور يقول الشيخ بأنه تم دون وجل وكأنه قُدّ من حنجرة الجابري وهو يقول (هات يا زمن .. هات كل أحزانك تعال جيب المحن).
وبمجرد أن وصل الشيخ لمنزل، انتوى الشيخ مقاضاة خليل إبراهيم حال وصل للخرطوم عبر اتفاقية سلام بغية تعويضه عن أضرار قدرت يومها بـ (35) ألف جنيه، وحتى بعد موت قائد الحركة شديد الجرأة فإن الشيخ لم يسقط نيته في مقاضاة باقي قادته وعلى رأسهم جبريل (أخوه لخليل) متى ما وطأت أقدامهم الخرطوم، ودفاعاً عن حقوق أهالي أم درمان.

الخرطوم: مقداد خالد: الصيحة