سياسية

مأزق الجيش في السودان

يثابر السودانيون على قتل أمل العسكر في مواصلة حكم السودان. هذا سبيلٌ لا بد منه للبدء ببناء نظامٍ يسمح للناس بالدفاع عن مصالحها، فالديمقراطية لا تحقّق مصالح الناس، بل توفر للناس سبل الدفاع عن مصالحهم. لا جدال في أن من أكثر المهام صعوبةً في وجه الشعب السوداني لإرساء الديمقراطية إجبار العسكريين على العودة إلى ثكناتهم والاكتفاء بمهنتهم العسكرية. وهذا ينطبق، بطبيعة الحال، على معظم دولنا التي تشوّهت بفعل نجاح العسكر في إلغاء الحدود بين العسكري والسياسي، أي بفعل سيطرة أجهزة القوة في الدولة على الجهاز السياسي، وتفلتها بالتالي من الانصياع إلى “حكم” السياسيين، لتصبح هذه الأجهزة هي السيدة المطلقة لنفسها وللمجتمع، ولتفرض منطقها الوحيد (منطق القوة والإخضاع) على المجتمع. دائماً، كان وضع الجيش تحت إدارة مدنية أحد أهم الأسس في بناء نظام حكم يحترم إرادة الناس، ويسمح بتطوير أشكال تعبيراتهم السياسية والمدنية.

الضغط الشعبي الذي أرغم العسكر في السودان، بمن فيهم القوات المسلحة (النظامية) بقيادة عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع (غير النظامية) بقيادة حمدان دقلو (حميدتي)، على خلع عمر البشير في إبريل/ نيسان 2019، هو ما أرغمهم، بعد أربعة أشهر (أغسطس/ آب 2019)، على توقيع الميثاق الدستوري الذي ينصّ على المشاركة في الحكم مع القوى المدنية، وتقاسم السلطة في آجال محدّدة، ضمن سياق التخلي التام عن الحكم لصالح المدنيين.

الحراك السوداني لا يحمل سمةً إسلاميةً يمكن استثمارها في تسويق تهمة الإرهاب “الإسلامي” إلى الغرب

ولم يكن مفاجئاً للسودانيين انقلاب العسكر على هذا الميثاق في أكتوبر/ تشرين الثاني 2021، واحتجاز رئيس الوزراء عبد الله حمدوك ووزراء في حكومته، استباقاً لموعد استلام المدنيين رئاسة مجلس السيادة الانتقالي. وحين وافق حمدوك، بعد أقل من شهر من الانقلاب، على إعادة تنصيبه رئيساً للوزراء، وفق اتفاق جديد بشروط في صالح العسكر، رفضت معظم القوى المدنية هذا الاتفاق، بما في ذلك قوى الحرية والتغيير وتجمّع المهنيين السودانيين اللذان شاركا مع العسكر في الوثيقة الدستورية لعام 2019. وقد راكمت هذه تجربة مشاعر رفض العسكر لدى هذين التشكيلين المدنيين الأساسيين في الحياة السياسية في السودان، وهو ما يفعل باتجاه المحاصرة السياسية للجيش.

وبفعل السعي العسكري الدائم إلى التضييق على الحكومة الجديدة، بخلاف الاتفاق على “عدم التدخل”، استقال رئيس الوزراء في الثاني من يناير/ كانون الثاني 2022، داعياً إلى حوار حول طاولة مستديرة لوضع اتفاق جديد للانتقال السياسي في السودان الذي يعاني من أزمة اقتصادية خانقة. أيضاً تفعل هذه الاستقالة باتجاه مزيد من عزل الجيش سياسياً. والواقع أن هناك قوى مدنية، وبشكل خاص “لجان المقاومة”، رفضت، منذ البداية، اتفاق الشراكة مع العسكر (الوثيقة الدستورية) ورفعت شعار “لا تفاوض، لا اعتراف، لا شراكة” مع العسكر، منطلقة من قناعةٍ بأن المخرج الوحيد هو إرغام العسكر على الخروج من الحلبة السياسية، وليس الشراكة معهم. وهو الموقف الذي تحافظ عليه اللجان، بما يعزّز فشل الجيش في كسب قوى مدنية.

ما يهمّ الطغمة العسكرية أن تنجو من المحاسبة بشأن جرائمها السابقة

والحقيقة أن الجيش السوداني لم يكن حرّ اليدين في مواجهة الحراك المدني، ففي غضون سنة بعد انقلاب السودان، لم يتجاوز عدد الضحايا من المتظاهرين 120 قتيلاً. وللمقارنة، وصل عدد المتظاهرين الذين سقطوا في سورية حتى شهر إبريل/ نيسان 2011 أي بعد أقل من شهرين من اندلاع الثورة، إلى 250، بحسب منظمات حقوقية، ذلك قبل التحوّل العسكري في الصراع.

في صالح السودانيين أن الطغمة العسكرية هناك لم تتوفّر على عصبيةٍ أهليةٍ (طائفية أو قومية أو عرقية … ) تخلق نواة صلبة داخل الجيش، وتضعه في مواجهة حياة أو موت مع المجتمع. وفي صالح السودانيين أيضاً أن الحراك السوداني لا يحمل سمةً إسلاميةً يمكن استثمارها في تسويق تهمة الإرهاب “الإسلامي” إلى الغرب. لا يزال إسلاميو السودان أقرب إلى الجيش منهم إلى الحراك السوداني. معروفٌ أن الجيش السوداني اعتاش على العصبية الإسلامية أول مرة، في المرحلة الثانية من حكم جعفر النميري (بعد الفترة اليسارية)، ثم في مرحلة عمر البشير. واليوم، يفتقد الجيش السوداني، بعد أن سقط البشير ومعه حلفاؤه الإسلاميون، مثل هذه العصبية التي يمكن أن تشدّ الجيش وتلحمه بما يكفي لمواجهة وحشية مع المنتفضين. وهذا يفسّر اعتماد طغمة الحكم على قوات الدعم السريع في تنفيذ المهام القذرة، مثل فضّ الاعتصام أمام القيادة العامة للقوات المسلحة أو ما عرف باسم “مجزرة الخرطوم” في 3 حزيران/ يونيو 2019. ولكن هذه القوات تعاني، هي الأخرى، من حمل تاريخها القذر في إقليم دارفور، ومن غياب العصبية القومية التي كانت تغذّيها في مواجهة أهالي دارفور، فلا محلّ لهذه العصبية مع المتظاهرين “العرب” في الخرطوم. هذا فضلاً عن مكانتها المليشياوية غير النظامية. والحال أن الحركة المدنية في السودان لا تكفّ عن المطالبة بإنهاء هذه الحالة ودمج هذه القوات في “جيش واحد مهني وقومي يحمي الوطن والمواطن، وينأى بالجيش عن السياسة ويراجع النشاط الاقتصادي للمؤسسة العسكرية والأمنية”. ويبدو أن حالة قوات الدعم السريع هذه هي ما تجعل قائدها حميدتي مدفوعاً، بطموحه السياسي، إلى محاولة غسل تاريخ قواته بالامتناع عن زجّها في مواجهة المحتجين، وبالبروز بصورة شعبية معتدلة.

قد يكون الشعب السوداني الأقرب، قياساً على الشعوب العربية الأخرى، إلى إنجاز مهمة كفّ يد الجيش عن السياسة

يبدو المستقبل في غير صالح العسكر في السودان، وأمام انسداد أفق الحكم العسكري هناك، يبقى ما يهمّ الطغمة العسكرية أن تنجو من المحاسبة بشأن جرائمها السابقة على ما يذكر تقرير لمركز ستراتفور (الأميركي): “من غير المرجّح أن يتنازل البرهان وحميدتي وأعضاء آخرون في المؤسسة الأمنية عن السلطة من دون تأكيدات على أن الحكومة المدنية الجديدة لن تحاول مقاضاتهم على جرائم مزعومة ارتُكبت في عهد الرئيس المعزول عمر البشير، وعلى مدى حكم المجلس العسكري”.

ثبات حركة الاحتجاج المدني وسعتها، مع خشية الطغمة العسكرية من تفكّك الجيش في حال اختارت المواجهة الوحشية مع الشارع، هو ما يعطي السودان فرصة معقولة للخلاص من سيطرة العسكر على المجال السياسي.

قد يكون الشعب السوداني الأقرب، قياساً على الشعوب العربية الأخرى، إلى إنجاز مهمة كفّ يد الجيش عن السياسة.

العربي الجديد