رأي ومقالات

د. هاشم حسين بابكر : المياه..أزمة وسياسة وإدارة

[JUSTIFY]ذكرت في المقال السابق أنه أُتخذ قرار بإنشاء هيئة للاستثمار في مياه الشرب في إحدى الاجتماعات في تسعينيات القرن الماضي، وقد قلت في ذلك الاجتماع كيف يمكن الاستثمار في مياه الشرب والإنسان يستهلك في اليوم وفي أشد الأجواء حراً ما بين ثلاثة إلى أربعة لترات لشرابه في اليوم، وقلت إذا كان الامر هكذا فكل السودان تكفيه محطة واحدة من محطات التنقية التي تنتج ما يقرب المليون متر مكعب هذا اضافة إلى الآبار، وما كنت أقصد أن يكتفي السودان بمحطة تنقية واحدة كما فهم القارئ الكريم الأستاذ إسماعيل آدم محمد زين في موقع الراكوبة الالكتروني، إنما قصدت أن الاستثمار في مياه الشرب وهي الأقل استهلاكاً والأغلى قيمة ليس بالاستثمار الصحيح. كما لفت النظر إلى بقية أنواع المياه الاكثر استخداماً وهي الأكثر كمياه الصناعة ومياه الزراعة والاستخدامات الأخرى والتي تستهلك مياهاً كثيرة، هذه المياه التي ينبغي الاستثمار فيها ولم يرد أي حديث عنها. وقد ذكرت أيضاً أن المقترح غير موفق، وطالما ورد التصنيف للمياه فيجب ذكر الاصناف الأخرى، فمياه الشرب اكثر المياه تكلفة حيث تكلف تنقية لتر واحد مبلغاً كبيراً ولنا فيما نرى من أسعار ما يسمى بماء الصحة أكبر دليل على ما نقول. والذي يحدث هو أن جميع المياه التي تنتج في محطات التنقية تعامل بنفس المعاملة، فمياه الشرب هي ذاتها التي تذهب للصناعة وهي ذاتها التي تذهب للزراعة وهي ذاتها التي تستخدم في غسل الملابس والبيوت والشوارع وغسيل السيارات وفي البناء.

لهذا كانت تكلفة صناعة المياه عالية إذ كيف يمكن تنقية المياه التي تستخدم في الصناعة والزراعة والاستخدامات الأخرى بذات الدرجة التي تعامل بها مياه الشرب؟! كم من مواد التنقية تهدر وهي كيماويات غالية الثمن، وبعد هذا نشتكي من ان التعريفة يجب ان ترتفع، هذا إلى جانب الاهدار في هذه المياه إذ تنفجر الشبكة في الاحياء هذا إلى جانب ضعف الادارة في التحصيل، ويضاف إلى هذا سواء الصيانة إذ تنفجر الخطوط وتبقى تضخ المياه في الشوارع لعدة أيام دون ان يتم إسعافها؟! أذكر في ذات مرة أن تقدمت لإحدى كبرى المؤسسات الصناعية بإنشاء محطة تكرير عرضت فيها مياه شرب ومياه صناعة ومياه زراعة، ذكرت لهم في المقترح أن تكون هناك خطوط لكل نوع من هذه المياه، وكانت تقديرات الكيماويات لديهم في مشروعهم المقترح ثلاثة آلاف طن سنوياً من الكيماويات بينما كانت تقديراتي السنوية لذات الكيماويات ثلاثمائة طن فقط لا غير، وكان المقترح المقدم لديهم يقول بإنشاء أحواض ثلاثة سعة عشرة آلاف متر مكعب من المياه النقية، في حين أن الاستخدام اليومي لمياه الشرب لا يتعدى المائة متر مكعب وقد اضفت خمسين متراً كإحتياطي!! ذكرت لهم أن فكرة تخزين المياه في أحواض وبسعة عشرة آلاف متر مكعب فكرة غير صائبة، فالاستهلاك اليومي لكل الاستخدامات لا يتعدى الألف متر مكعب، وهذه المياه في خلال اسبوع او اقل ستكون مورداً خصباً للذباب والناموس والبعوض الذي لا يتوالد إلا في المياه العذبة النقية، وأمر آخر وهو أن طبيعة الارض في تلك المنطقة هي ارض فوارة، الامر الذي يمكن ان يحدث شقوقاً في الاحواض فتتسرب المياه وتهدد المباني والمنازل.
إحدى الشركات تقدمت للعطاء وكان بحوالي ثمانية مليار بالقديم، وتقدمنا بعطائنا الذي كان بالتحديد بتكلفة ثلاثة مليارات وثمانمائة مليون ويحوي حوض التنقية وخزانات أرضية وعلوية لكل انواع المياه، زراعية كانت أم صناعية أم مياه شرب أم للاغراض المنزلية الأخرى ورغم ذلك رُفض عرضنا.

تقدمت مع بعض الإخوة الخبراء بمشروع للاستفادة من مياه فيضان نهر عطبرة والذي دائماً ما يفيض وتحدث اضرار مادية كبيرة، وتم تحضير خرائط جوية من الاقمار الصناعية وهي خرائط في غاية الدقة بيَّنا فيها مجرى قنوات من نهر عطبرة إلى المنخفضات المنتشرة في المنطقة وقد قدرنا الاستفادة من قناة واحدة بزراعة اكثر من نصف مليون فدان، بالاضافة إلى مراعي تفوق مساحتها المليون فدان، ورغم ان المشروع تستفيد منه ثلاث ولايات هي كسلا ونهر النيل والبحر الأحمر حيث تتجمع قوافل الابل في تلك المنطقة إلى جانب الضأن، علماً بأن المنطقة هي في خط سير الابل إلى جمهورية مصر. رفضت النهضة الزراعية تمويل الدراسة بحجة أن الميزانية غير متوفرة، وذهبنا إلى صندوق تنمية الشرق وقد قابلنا مديره بكلام غريب حيث حددنا زمن الدراسة بثلاثة اسابيع، وقال لنا لن تستطيعوا اكمال الدراسة في هذا الزمن الوجيز لذلك رفض تمويل الدراسة. وكانت طموحاتنا اكثر من ذلك بكثير حيث قدمنا مشروعاً آخر أطلقنا عليه اسم النيل الصناعي العظيم، للاستفادة من مياه خور ابو حبل وحجز المياه بسد مع شق قناة من البحيرة المكتونة إلى وادي الشبيكي الذي يجري من جبال كردفان ويصب في النيل الابيض ويجري هذا الوادي ما بين شهرين وثلاثة اشهر في السنة وعمل سد في ذلك الوادي وشق قناة حتى وادي المقدم الذي يمكن عمل سد عليه، هذا المشروع يجعل المنطقة ما بين النيل الابيض والنيل والقناة عبارة عن جزيرة صناعية والاراضي هناك أراض خصبة يمكن زراعتها كما انه ينعش المراعي، في حال الفيضان الضعيف لاحد هذه الاودية يمكن الاستعانة بمياه فيضان النيل الابيض، كما ان هناك عشرات بل مئات الآبار في النيل الابيض غير صالحة للشرب لارتفاع درجة الملوحة فيها يمكن ضخها في هذه القنوات حيث تخف تلك الملوحة كثيراً وتصبح قابلة للشرب.

أحدث هذا المشروع ضجة في أوساط خبراء المياه والهايدرولوجي، وقد أثنى البروفيسور قنيف كثيراً عليه وعلى مشروع نهر عطبرة وقد طلب من النهضة الزراعية تمويل الدراسة ولم يصغ إليه احد وكانت تكلفة دراسة مشروع نهر عطبرة لا تزيد عن الستين ألف جنيه.. وكنت أدرك جيداً ومقتنعاً تماماً بأن الازمة في دارفور هي ازمة مياه بالدرجة الأولى وقد كتبت عن ذلك، واذكر انني قلت ان الازمة في دارفور هي ازمة مياه وقد تتحول إلى أزمة امنية وفي اطار تطورها ستصبح ازمة سياسية حينها سيصعب الحل، وقد ذكرت حديثي هذا عن تجربة، فقد كانت فرق الصيانة في الهيئة القومية للمياه هي الوحيدة التي لا تتعرض إليها عصابات النهب المسلح وقد كنت في مأمورية ذهبت فيها إلى نيالا والفاشر وجبل مرة، وايقنت انت الازمة في دارفور هي أزمة مياه. وقد أقنعت اثنين من خبراء المياه وهما البروفسير محمد خير صالح شفاه الله وعافاه، وخبير اقتصاديات المياه والاقتصاد بروفسير عصام عبدالوهاب بوب بتأليف كتاب شامل عن المياه في دارفور، وفعلاً تم اصدار الكتاب وهو الاول من نوعه في السودان وقد نال ثناء كلية العلوم قسم الجيلوجيا في جامعة النيلين، كما نال شهادة من وزارة الري من خبير المياه العالمي السيد كمال علي محمد وكانت هذه الشهادات كافية لاصدار إذن النشر. تم طبع الكتاب بتمويل من المركز العالمي للدراسات الافريقية والذي كان مسرحاً لندوات مشاريع نهر عطبرة والنيل الصناعي العظيم بالاضافة إلى ذلك الكتاب القيم كل هذا تم خلال ثلاثة أشهر من استلامي قسم الدراسات والبحوث في المركز. وذات صباح قابلني مدير المركز بخطاب تم فيه الاستغناء عن خدماتي!! وسكتُ عن الكلام المباح.

صحيفة الانتباهة
ت.إ[/JUSTIFY]

تعليق واحد

  1. الأخ العزيز د. هاشم

    جزاك الله خيرا وفي البداية اتمني من الله ان يعافي الأخ العزير د. محمد خير صالح.

    بدأت مشاكل المياه في السودان تظهر بعد ان تغول المتغولون علي هيئة توفير المياه و التنميه الريفيه و عندما اعطيت القوس لغير بارئها.
    كتبنا كثيرا عن حلول لمشكلة مياه الخرطوم و القضارف وبورتسودان ولكن لا حياة لمن تنادي.

    و نقترح قيام ورشة عمل يدعي لها زوي الإختصاص لمناقشة كيفية حل مشكلة مياة الخرطوم و التي في رائ المتواضع انها مشكلة فنية واداريه.

    من هذا المنبر اقدم تحياتي للرعيل الأول من خبراء هيئة توفير المياه واترحم علي من سبقنا منهم.