منى عبد الفتاح: أقدم حرب عرقية تمت على الضفة الشرقية لنهر النيل في شمال السودان.
وما لم يدركه مصطفى سعيد، أو فتياته الإنجليزيات، أنّ التاريخ يُبعث إلى أبعد من ذلك، ويعود إلى نحو 13 ألف سنة، ليثبت للعالم أنّ أقدم حرب عرقية فيه تمت على الضفة الشرقية لنهر النيل في شمال السودان. هذا ما واظب على اكتشافه علماء أنثروبولوجيا فرنسيون، يعملون بالتعاون مع المتحف البريطاني، من خلال بقايا هياكل عظمية، أظهرت طبيعة القتل بسهام حجر الصوان.
والناظر إلى الحرب العرقية الدائرة إلى الآن في السودان، وتحت مسميات ودواعٍ عديدة، لا يستغرب تأصيل هذه البقعة من العالم، باعتبارها مسرحاً لأقدم نزاع مسلّح في تاريخ البشرية. ولأن تأخر هذا الاكتشاف، إلى هذه الأيام، على الرغم من وجود آثار على رؤوس السهام وشظايا حول عظام الضحايا، منذ ستينيات القرن الماضي، إلأّ أنّ دلائل عديدة أخرى، غير محسوسة، تذهب في الاتجاه نفسه.
يجيء هذا الاكتشاف مع إشاراتٍ واسعةٍ لطبيعة الشعب الذي نشأ على النسق القبلي المتطور مع تطور الحياة، فقد بدأ منظماً في بدائيته التي اعتمدت على النشاطات الزراعية والرعوية، قبل دخول الإسلام إلى تلك المنطقة، وقيام مملكة تقلي الإسلامية في القرن السادس عشر الميلادي، ليشكّل الإسلام عامل تكوين تلك المملكة وبقائها، جنباً إلى جنب، مع ديانتها الأساسية مع المسيحية والوثنية، وغيرها من الديانات المحلية. ولكن هذه التعددية لم تشفع في استدامة حالة التعايش السلمي، بل عملت، أحياناً، كوقود لإثارة النعرات القبلية والدينية والعرقية الإثنية.
ولا يقف التصنيف على الأرض وحدها، وإنّما يشمل المجموعات البشرية الممتدة على مساحة السودان الشاسعة. وإن أثبت الاكتشاف الحديث هذا الإرث الدموي في الحرب والاقتتال، فإنّ وثيقة أخرى، أشار إليها زعيم الحزب الشيوعي السوداني الراحل، محمد إبراهيم نقد، قبل سنوات، تفيد باستعداد السودانيين لخوض غمار الحروب.
تلك الوثيقة كانت رسالة بعث بها نابليون بونابرت، امبراطور فرنسا، إلى سلطان دارفور، إبان الحملة الفرنسية على مصر(1798-1801)، لكي يبعث له بشباب أقوياء، يسند بهم قواته في حربه في إفريقيا، ولتجنيدهم حرساً خاصاً به. ونابليون صاحب المقولة التاريخية: “جيش من الأرانب يقوده أسد، أفضل من جيش من أسود يقوده أرنب”، استطاع أن يحصل على ألفين من أسود دارفور، ساعدوه في القضاء على حكم المماليك في مصر.
وفي إقليم دارفور غرب السودان الذي استجلب منه نابليون بعض معاونيه، تشتعل الحرب التي تحولت من عنف قبلي إلى استقطاب إثني، أخذ يجتاح الإقليم، منذ وصلت النزاعات فيه إلى حربٍ، بدأت شرارتها عام 2003. خرجت هذه الحرب من عباءة المجموعات العرقية والإثنية، والتي كان يجافي فيها الخصائص والأصول السكانية لمجتمع متعدد ومتنوع، مثل المجتمع السوداني، إلى صراع سمته السائدة التعصب القبلي. بدأ تصنيف الاقتتال بين المنتمين لقبائل عربية وأخرى إفريقية أخذت تستقوى كل منها برصيفاتها من القوى، ففي حين تدعم القوات الحكومية ومليشياتها القبائل العربية، تدعم الحركات المتمردة المسلحة القبائل الإفريقية.
وفي جنوب السودان، كانت الهوية الأساسية مكونة من قبائل عديدة، وهي عربية مسلمة، متاخمة لحدود الجنوب وقبائل إفريقية مسيحية ووثنية وروحانية. شهد هذا الإقليم حرباً أهليةً، امتدت إلى ما يزيد على نصف قرن. لم تنته الحرب بتوقيع اتفاقية السلام الشامل عام 2005، لكنها مهّدت لانفصال جنوب السودان، مكونّاً دولة مستقلة عام 2011. ولم تقف الحرب بالإنفصال، فقد تم استنساخها على الجهتين، داخل الدولة الجديدة، وفي جنوب السودان الجديد في إقليمي النيل الأزرق وجنوب كردفان.
لم تساعد هذه النزاعات في ذوبان هويات السودان العديدة، كما لم تنجح الحكومة السودانية في نفي أنّ ما يدور من حروب في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق ليست عرقية. خصوصاً وأنّها في أحلك معمعات الحرب، تقوم بالتنويه بأنّه لن يكون بعد الانفصال مجال للحديث عن التنوع العرقي أو الثقافي.
لا توشك حربٌ على نهايتها، إلّا وتشتعل أخرى، ولئن تحاشى محاربو العصور القديمة خوض المعارك في متاهات الغابات ووسط وعورة الجبال، وركزوا على الصحراء وضفاف النيل، فإنّ الأطراف المتحاربة، اليوم، لا تتوانى عن إدارة ظهرها لعِبر التاريخ واقتحام هذه الوعورة، بمعناها الحقيقي والمجازي، في حرب الجنوب على عهودها المختلفة.
لا زالت المعارك دائرة إلى اليوم، ولم تبرح السودان، بل تعذب بنوه، وازدادوا فتنة إثر فتنة، لتعكس هذه الأرواح، المفقودة على مدى 13 ألف سنة، حجم التصدع الداخلي الذي ينوء به كاهل أهله وأرضه.
منى عبد الفتاح -العربي الجديد
غايتو ماعارف اقول ليك شنو…. لكن شكلك انت متشائمة جداً عن مستقبل البلد دي…. الرسول صلي الله عليه وسلم قال: تفاءلوا خيراً تجدوه.