وجوه سودانية: كرم الله الشيخ.. تربالي في ثياب سياسي
عُرف (كرم الله عباس الشيخ) بأنه أحد أبرز قيادات الحزب الحاكم ونقابييه، وضربت شهرته الآفاق خلال مسيرته الطويلة التي بدأها بولايته (القضارف)، التي نشأ وترعرع ودرس فيها، قبل أن يسطع نجماه السياسي والنقابي، بعد أن تبوأ مناصب عليا.
شبَّ (كرم الله)، في الاتجاه الإسلامي منذ نعومة أظفاره، وبعد إكماله المرحلة الثانوية، انخرط في العمليْن السياسي والزراعي، إذ لم يتمكن من إكمال دراسته الجامعية بعد رحيل والده (المزارع الثري)ـ الذي ترك له أعباء إدارة مشروعاته الزراعية الضخمة، بصفته أكبر إخوانه سناً.
(1)
ابتدر مسيرته النقابية بمنصب رئيس اتحاد مزارعي ولاية القضارف، وسرعان ما زاحم الكبار في المنصب الاتحادي، حيث تولى رئاسة اتحاد مزارعي السودان لسبع سنوات منذ العام (2003 وحتى 2008م)، قبل أن يدشن رحلة جديدة بانتسابه عضواً بالمجلس التشريعي لولاية القضارف (البرلمان) ردحاً من الوقت، وما لبث أن تسنم رئاسته وجلس على عرشه، مستفيداً من ملكاته وقدراته القيادية الفذة، وكاريزماه الطاغية.
ظلِّ (كرم الله) الشيخ، رئيساً للمجلس إلى أن تقدم باستقالته طوعاً بعد قرار الحزب بإبعاد والي القضارف الأسبق والخرطوم الحالي (عبد الرحمن الخضر) في أعقاب صراع شهير بين الرجلين حول أنصبة الولاية المالية وضرورة استغلالها لصالح المواطن، ويحكي أن (كرم الله) دفع وقتها إلى غريمة الخضر بمقولته الشهيرة “ح أشيّلك بقجتك في راسك”.
(2)
بتقديمه استقالته عن رئاسة المجلس التشريعي، اعتزل (كرم الله) العمل السياسي متفرغاً لإدارة أعماله الزراعية، فاستطاع أن يتوسع في حجم الرقعة، ويمتك آليات وتقنيات حديثة ومتطورة قفزت به إلى أن يصبح أحد الأرقام الزراعية الصعبة ليس في القضارف فحسب، بل في السودان قاطبة.
ويقول مقربون من الرجل، إن روحه أقرب إلى (الترابلة) منها إلى الرأسماليين، وإنه يقف بنفسه على العمليات الفلاحية كافة، ما قربه كثيراً من العمال الزراعيين وصغار المزارعين، حتى إنهم يرون فيه حلمهم ومثالهم الأعلى.
وبحسب هؤلاء المقربين، فإن (كرم الله) دائما ما يستغل وجوده في (الخلاء) للقيام بمراجعات شاملة لتجربته في الحكم والسياسة ويخضعها أيضا لنقاشات لمن يزوره من أصدقائه في (الكمبو الزراعي) الذي يمتلكه ويعد العلامة البارزة في جنوب القضارف، بل إن البعض يطلق عليه (البيت الأبيض) وطالما خرجت منه معظم المواقف والفرمانات السياسية، ويتميز ببنائه الأبيض الناصع الظاهر في تلك المناطق بوضوح للجميع.
(3)
عرف عن (كرم الله) اعتداده برأيه حتى ولو كلفه منصبه وإطلاقه للحقيقة عارية، وكان ثمن ذلك استقالتان تقدم بهما من منصبيه رئيساً للمجلس التشريعي ثم والياً للقضارف، حيث إنه الوالي الوحيد الذي تم تكوين لجنة عليا لترشيحه من قبل الأحزاب السياسية، بل إن قيادات معارضة كانت تدعم الرجل صراحة أو خفية، ما أهله كي يصبح أحد أبرز القيادات الملهمة لأهل القضارف، حتى أنه حظى بشعبية جارفة وجماهيرية كاسحة، فحقق فوزاً كبيراً في الانتخابات إلى منصب الوالي، لا يزال كثيرون يعتقدون أنه سيحققه في كل الأحوال.
(4)
كعادته دائما في البوح بقناعاته السياسية بلا مواربة أو وجل يطلق التصريح على ظهر التصريح، فهو الوحيد من الولاة قدم تجربة (التقشف) قبل أن تتخذها الحكومة الاتحادية برنامجا لمعالجاتها الاقتصادية، ومن ثم قام بتكوين حكومة (رشيقة) حققت أول سابقة من نوعها بخلو حساباتها من أي حالات اعتداء على المال العام خلال فترة إدارتها لأموال الولاية، وعرف عن عباس بأنه أكثر الشخصيات التي تملك حساسية مفرطة مع عملية (الفساد) وتبديد المال العام، كما أنه دافع بشراسة كبيرة عن حقوق ولاية القضارف ووقف في وجه المركز، معيدا بذلك شواهد كثيرة في التاريخ السياسي السوداني أو بالأحرى مسطرا تاريخا قلَّ ما يتوفر عند الكثير من السياسيين الذين عرفوا بالخبث والدهاء والانحناء للعاصفة.
(5)
أسس عباس أول منظمة للمياه في تاريخ الولاية التي ظلت تعاني من شح في مياه الشرب منذ الاستقلال، وكون المنظمة مع آخرين من مختلف ألوان الطيف دونما اعتبارات للاتجاهات السياسية والفكرية، لأن هدفها الأول هو توفير المياه واستقطاب الدعم لحل الأزمة، وبذات القناعات كون اتحاد مزارعي القضارف من معظم الطيف السياسي، وما يزال يعمل معظمهم مع (كرم الله) الذي كثيراً ما يتخلى عن الانتماء الحزبي من أجل المصلحة العامة، بل إنه الوالي الوحيد الذي أقنع حزب الأمة القومي بالمشاركة في حكومة ولايته، حيث عيَّن الأستاذ (سيف الدين آدم) المحامي مستشاراً له، بجانب حضوره الدائم لكل الفعاليات السياسية التي كانت تنظمها الأحزاب المعارضة بما فيها يسارية التوجه، مما أكسبه حباً نادراً من قبل الجماهير.
(6)
بهدوء غادر (كرم الله) منصب والي القضارف، ولم يسمع له أي حديث عقب تقديم استقالته في صالون النائب الأول لرئيس الجمهورية السابق (علي عثمان محمد طه)، وكعادته مضى نحو مشاريعه الزراعية التي ترقد على الحدود السودانية الإثيوبية متخندقا ومفارقا السياسة حتي اللحظة. لكن الآن ربما يعود (كرم الله عباس الشيخ) مجدداً لمنصب والي القضارف، حال تم الدفع به تارة أخرى أو أنه سيترشح مستقلاً بحسب ما يتوقع أنصاره.
اليوم التالي
خ.ي