رأي ومقالات

اميمة عبد الله : الصلحي .. وينصب الهوى القاً

سيتخطاه بصرك بدءً ، إن لم تجالسه قبلاً فالرجل لا يحمل غير مألوف ، هي ذات الملامح التي يتضح عليها جليا طحين الأيام ، وهي ذات طبقة الشفاه لمن عبر الحياة حنيناً ، سنوات طويلة من الأحداث والتجارب وهي ذات الخطوات المتأنية التي يمشيها من أثقل كاهله لونا مشتعلاً على الدوام بروحه ، مختلطاً بتراب لطالما حمله كتعويذة ، جاء هذا الرجل إلى الدنيا لا ليعبرها بل لتبقى فيها أعماله خالدةً .
لكن إن التقت الأعين معتذرةً عن العبور حتما سينكشف الغطاء ويُفتضح السر وسيعاتبك البصر وحتما سيرجع كرة أخرى .
لا أملك سوى الحب لروح أتعبها الحب ، واهنة هي من الحنين موجوعة من أخبار الوطن البعيد .
ألتقيته ذات صباح شتوي وكان ثمة كلام دفئ بيننا وحكايات لأحداث قديمة وطرائف .
جلس قبالتي بحياء رجل ثمانيني ، فسالت روحي ولها ، وهل املك سوى الهوى بديلاً لرجل كإبراهيم الصلحي ، الفنان التشكيلي الذي غزا العالم ككرة لون متوهجة .
خمسون عاماً ، ياله من زمن طويل بكل ما فيه من آمال وأحلام وتمنيات قطعها الصلحي مُثقلاً بالوطن ، تنقل بين صالات المطارات ومحطات القطارات ، حمل امدرمان كجمرة ما انفكت تنهك جسده الضئيل قبل القلب ، امدرمان المتّربة بطقسها الحار وجهلها في ذلك الوقت بالفرشاة واللون ، امدرمان المحمية على الدوام بأضلعه من النسيان ، نشأ فيها ملتزماً بتعاليم دينه الإسلامي دخل الخلوة وعمره عامان حيث مكث فيها ثلاثة سنوات ، كانت الخلوة في بيته ، أقامها والده الشيخ محمد الصلحي من حر ماله عندما كان يعمل معلما بالمعهد العلمي .
نشا إبراهيم متأثرا بأذكار الصباح والمساء والمولد العثماني ومداح المصطفى صلى الله عليه وسلم ، تشرّب بالحكاوي والقصص القديمة منذ الصِغر ، كان لمجتمع العباسية حيث التربية الجماعية والأسرة الممتدة أثراً قوياً في حياته ، في الخلوة تعرّف على الشرافة وهي زخرف يزينه اللون وتشمل الألوان والخطوط وتصميم الغرافيك وفي الوسط عادة تُكتب السورة القرآنية ، ومن يومها والصلحي يتميز بدقة الخط لأنها كان شيئا مهما في ذلك الوقت .
سكن الصلحي فريق هوارا كرابيج ، خلفهم جماعة من جبال النوبة ومن الناحية الشمالية قبيلة الشاقية معهم جماعة الخليفة احمد عيساوي وجماعة حمد ودجبرالله
وجماعة من قبيلة الهوسا ن لوحة مختلفة اللهجات والسحنات والثقافات
مال الصلحي كما إخوانه للجانب التشكيلي ، فأخته الحاجة منى كانت ترسم أشكالاً دقيقة للغاية للبورتريه ، مكث الصلحي بالأحفاد الأولية عامان وبالأميرية عامان وأربعة بالأهلية الوسطى ، في المرحلة الثانوية عام 1941 وجد الصلحي عناية حقيقة من ناحية المنهاج الدراسي في تدريس الفنون ، حيث أحتضن أستاذه الخير هاشم _ عليه رحمة الله _ أعماله واعتنى بها وكانا يذهبان معاً إلى الحدائق لرسم الزهور وتصميماتها ، لكن العناية الحقيقية كانت في مدرسة وادي سيدنا ، حيث أكمل الدرب أستاذه إبراهيم تلودي واحمد محمد وبريطاني أسمه مستر ديفدذ وهناك تعرف على صديقه وحبيبه الروائي الطيب صالح ومن يومها ربطهما الحب برباط فولاذي .
كان للخلوة والخط العربي والزخرف المحلي من نبع الموروث الشعبي آثر عظيم في حياة الفنان التشكيلي إبراهيم الصلحي ، استصحبه معه طيلة عقوده التسعين ، كان يرى رغم المكتسبات التي تعرف إليها من المحيط الخارجي للوطن وعاد بها ، قلت كان يرى في الخلوة ذروة التعبير المحلي السوداني .
إن أحببت ألحكي عن الصلحي فذلك لجمال نادر يحمله وهدوء وسكينة مذهلة طالة من عينيه ورقة ناعمة تحيط بعباراته وأدب جم .
هو مدرسة كاملة لتعليم حب اللون ، منذ البدء اتخذ تيارا مخالفا ، أقلقه البحث عن شعبة تشكيلية ذات تعبير سوداني ، حدد أجزاء لوحته متجها وجهةً شعبيةً ومستلهما موضوعاته من زحمة الحياة ، برز الصلحي كظاهرة فنية وأستطاع مع أصدقائه أن يؤسس في منتصف أربعينيات القرن الماضي مدرسو أطلقوا عليها اسم مدرسة الخرطوم التشكيلية ، تُعد هذه المدرسة القاعدة التي بُني عليها التشكيل الحديث في السودان ، كانت المدرسة ذات جُهد واضح في البحث عن الهوية والخصوصية السودانية ذات البعد القومي المحلي _ ، كانت تجربة فنية واكبت المتغيرات المرتبطة بحركات التحرر من قيود المستعمر ، يرى النقاد أن المدرسة نجحت في إعادة قراءة التراث القديم وتقديمه في لغة فنية جديدة ، قالت مجلة افريكان آرت ارتيست أن الصلحي يعد واحد من الفنانين الأفارقة المشهورين وغالبا ما يجد وحيه في الأماكن العامة من الحياة السودانية .
شغل إبراهيم الصلحي منصب وكيل وزارة الثقافة في العهد المايوي ، بطيب خاطر قبل التكليف لأن حلما ما كان يراوده وكان حلمه إبداعا مخصبا بالمدهش ، هيكلاً وظيفياً جديداً لوزارة الثقافة يمتاز يإستحداث قسم يشرف على كلية الفنون الجميلة وقسم يتبع لها لرعاية الموهوبين في الرسم والتشكيل من خارج الكلية ، لكن الحلم عصفت به رياح السياسة وهو لم يكن يشبه أهلها ، للسياسة ناسها ، وهؤلاء الساسة ذاتهم ادخلوه عالما بحدود ملموسة ، متر طول في متر عرض مع آخرين ، شهور ستة قضاها إبراهيم الصلحي مسجونا ، ظلت هذه الشهور شبحا في القلب لا يذكرها إلا ويطلّ ظلام الحزن بوجهه كنقطة سابحة في ضوء حياته ، شهور السجن كانت من أهم محطاته على الإطلاق ، في تلك الفترة تحققت الاستقامة المطلقة التي لم تتحقق قبلا رغم النشأة الصوفية ، خرج اقرب إلى الروحانية وأميل إلى التنقيب في كنوز الفن الإسلامي في المتاحف الإنجليزية فانساب فيه هذا الفن متسلسلا ، ترك روحه مفتوحة للريح فحملته وطافت به لندن ، باريس، ادوان، الدوحة، واشنطن، بتليمور، فرانكفورت، ميونيخ، استراليا، هولندا في كل تلك المطارات لم يكن مقصودا عنده غير الإنسان ، الإنسان وحده كان الجذر الكوني المشترك ، يؤمن بعظيم دور الفنان في مجتمعه وممارسة الرسم عنده لا تقتصر على البعد الجمالي وحده بل تعدته نحو السعي الفكري لتأسيس إشكالية فلسفية حول دور الفنان ، الناظر إلى أعمال الصلحي القديمة والحديثة يلمس بسهولة أن الرجل لم ينقطع أبدا عن التعلّم والعطش الدائم للتقنيات والأساليب الجديدة واستكشاف الرؤى الإبداعية المخالفة لكل عهد .
الرسم عنده هماً يوميا يبدأه متوضئا بدعاء (( إليك قلبي لتملأه نور من نورك ))
بعدها يسكب حنينا على البياض .
لوحاته زينت متحف الفن الحديث بنيويورك ومتحف الميتروبولتيان وغاليري الشيز مانهاتن بنيويورك ومتحف الفن الأفريقي بواشنطن ومكتبة الكونغرس والناشونال غاليري وغاليري لأمبير بباريس والناشيونال غاليري ببرلين ومصلحة الثقافة الخرطوم .
جاء هذا الرجل إلى الدنيا لا ليعبرها بل ليبقى بسيرته العطرة وأعماله الخالدة والتقيته لا لأصافحه بل لأحبه دائما .

الصلحي هو الفنان التشكيلي السوداني العالمي
اميمة عبد الله
الخرطوم

تعليق واحد

  1. يا اميمه

    البارح ما فكيناكي من موسى الكباشي

    جيتي تاني اتشربكتي في ابراهيم !!

    انتي حترجعي بالطريقه دي لحدي سيدنا آدم ولا شنو !؟