مصطفى الآغا

كاسك يا وطن


[JUSTIFY]
كاسك يا وطن

لن يفهم البعض ما سأقوله ما لم يكونوا من أوطان «عتيقة» بمدنها وشوارعها.. بفقرها وغناها.. بتنوع أطيافها وتلون أيامها، ما بين ربيع تطير فيه الفراشات في حدائق البيوت الصغيرة بمساحتها الكبيرة بمحبة أهلها، إلى صيف حار من دون مكيفات، ثم خريف تبدأ فيه الحياة بالشيخوخة، إلى شتاء فيه المطر الذي يغسل الشوارع وأحيانا كثيرة يغسل القلوب، لأن من عاش تحت المطر لا بد أن يتبلل ببعض الدفء في قلبه..

وللمطر حكايا وقصص ترتبط به.. فعلى الشبابيك العتيقة نقف ساعات ننظر للشوارع والحارات وهي تكتسي بحبّاته، وللأسطح التي شهدت أول نظرات الحب الصافية التي لم تتعد حدود النظرة، ولكنها تلك الأيام كانت تعني ساعات من السرحان والتفكير وكتابة الخواطر بجانب «الصوبيا» أي المدفأة التي تعمل على المازوت.. ولعمري إنني أسكن بلادا لم يسمع أهلها بالمازوت أبدا، ولم يعرفوا ما هي الصوبيا التي يمكن أن تعمل على الحطب في حالة عدم وجود المازوت..

وفي مثل هذه الأيام تحديدا.. في ديسمبر الذي يسمى كانون الأول، أو يناير الذي نعرفه بكانون الثاني.. تجتمع الأسر قسرا بسبب البرد.. فتلتئم القلوب وتتآلف برضاها أو غصبا عنها.. ويبدأ الثلج بالهطول فيبدأ مرح الثلج والرحلات الشتوية للمرتفعات والجبال وزيارة الجدة وشواء الكستناء على الصوبيات المليئة بالشحار، «وصدقوني لم أعرف ماذا تدعونه هنا سوى أنه دخان أسود».. هذا هو الشتاء الذي أعرفه في وطني.. وهذا هو الوطن الذي يعني العز والعزوة والهوية والذاكرة والروح.. ولكن الروح فاضت والذاكرة باتت مملوءة بالأسى والدم، والهوية تكاد تضيع والتقسيم يلوح في الأفق، والشتاء غسل الشوارع ولم يغسل القلوب، وكيف له أن يغسلها وقد باتت سوداء كدخان الصوبيا الأسود الذي يقتل المتدفئين بناره..

يوم الأربعاء 11 / 12 / 13 أي يوم 11 من الشهر الثاني عشر في السنة الثالثة عشرة بعد الألفين، نظرت إلى حقائب السفر في بيتي التي باتت هي الوطن بالنسبة لمن تاه عنهم الوطن.. فهناك كثر آثروا الرحيل طائعين، ولكنهم يعودون متى أرادوا، ولكن ماذا عن أولئك الذين لا يستطيعون العودة؟ ماذا عن وطن تاه عن نفسه وعن أبنائه فبات غريبا حتى حقيقته؟

في ذاك اليوم كان الثلج يسقط على هضاب وسفوح وطني، وكان المطر يغسل بياضه والبرد يلتحف الصوبيا التي التف حولها المشردون والمقاتلون والهاربون والساكنون على روابي الخوف والقلق..

في ذاك اليوم كتبت خمس تغريدات وأحببت أن أشارككم بها لأن الكتابة بوح ولكن على العلن… أولها كانت:

«الكل يتغنى ببلاده وبمطر بلاده وبعطر بلاده.. أما بلادي فلا عطر فيها سوى رائحة الموت والخراب، وأمام أهلها يتم تحويلها من جنة إلى يباب..».

والثانية كانت «كم هو مؤلم أن يسكن وطنك في خيالك وفي حقيبة ثيابك، وأن يكون على مرأى من ناظريك ولا تراه أو تراه ولا يراك.. أو تراه كما كان لا كما يكون».

أما الثالثة «كم أنت قريب لتسكن بين الضلوع وبعيد بحيث لا تراك عين.. كم أنت حزين تحت وقع الشتاء الذي غسل الشوارع ولم يغسل القلوب، كم أشتاق لك.. أيها الوطن».

وفي الرابعة قلت «من يعتقد أن عدم الحديث عن الوطن هو تجاهل وتنكر لهذا الوطن فهو مخطئ.. فالوطن عزّ وعزوة وهوية.. ولكن ما نفع الكلام ولا أحد يريد أن يسمع؟».

وختمت تغريداتي في ذاك اليوم بهذه «أليس غريبا أن تكون كلمة وطن (وطننا فقط) على وزن شجن وحزَن، وجنون الفكر قبل الزمن، أليس غريبا أن يكون الدم هو نخب كأسك يا وطن؟».
[/JUSTIFY] [email]Agha2022@hotmail.com[/email]