رأي ومقالات

عثمان أحمد: الخرطوم مدينة بخيلة

بعض المدن كريمة على أهلها ، تلفت إنتباهك إلي مواضع الحسن فيها وتدعوك بلسان حالها ومقالها الي إحترام مكوناتها ، فإن لم تكن النظافة من أولوياتك أو لم تحسن التصرف في ذلك المضمار فستجد صعوبة لا محالة في قذف منديلك الورقي او علبة العصير الفارغة ، فالشوارع نظيفة بما يكفي لتسبب لك الاحراج وبمدى ما ارتكبت من جرم هذا بخلاف ما قد يجره عليك مثل هكذا تصرف من نظرة اشمئزاز ، زجر او مخالفة قانونية كما وان هذه المدن تضع امامك من الوسائل ما يغنيك عن الدفع بمخلفاتك الي الشوارع ،اما لسان مقالها فلا يفتأ ينبهك الي ما يفترض عليك فعله والي اماكنها الجميلة التي قد ترغب في زيارتها والاستجمام بها ، وكذلك تبين لك من خلال لوحاتها اي الطرق تسلك ثم انها تزين شوارعها باللوحات والزهور ، هذه المدن كريمة غاية الكرم مع سكانها وزائريها وتبيين عاطفتها وحبها ولاتنسى تاريخها وعظمائها فتصنع لهم المجسمات والمتاحف وتطلق اسماءهم على كل مكان شكرا وعرفانا لهم وليكونوا ملهمين لغيرهم ، لذا يبادلها الجميع المحبة.

حاولت الخرطوم مرة شكر بعض جنودها ممن دافعوا عن حماها ، فجعلت لهم نصبا ، أتعرف ماذا اطلقت عليه ؟ الجندي المجهول، لم تكلف نفسها ببحث اسماء الجنود او صورهم وما يرمز اليهم ووضعها شكرا وعرفانا ، ولذلك لا يحس احد الجنود او اهاليهم بنوع من العلاقة مع هذا المجسم خلافا للقيمة السلبية في اطلاق مسمى ( الجندي المجهول ) بدلا عن ( الجندى الباسل ) مثلا” ثم إن عفوية الاسم لدليل آخر على رسوخ اللامبالاة وتقدير الآخر.
الخرطوم مدينة محبطة ، يظهر الحزن في جميع تفاصيلها ، لا تبذل اي مجهود في اظهار مفاتنها ثم انها لا تقدرها ولا تحتفي بها كذلك ، كأنما لم تكتشفها بعد ، وهي كذلك لا تعبأ بزوارها ولا ساكنيها ولا ترشدهم الي كيفية التصرف او الي كيفية الوصول الي اي مكان ، و ان فعلت ذلك فانما تفعله على استحياء وبحالة من القرف الظاهر ، ترى لم هي الخرطوم حزينة ومحبطة ؟

الخرطوم كذلك مدينة بخيلة ولا تعرف الشكر ، تمتاز بذاكرة قصيرة وتبدو ناكرة للجميل لاولئك الافراد اللذين اجزلوا لها العطاء ، فمهما كنت رياضيا” لامعا” وحققت لها الانتصارات ورفعت من شأنها ، او سياسيا” محنكا قدتها وقدمت لها الخطط ، ومهما كنت فنانا وصغت وجدانها وعدا ولحنا وتمني أو كنت عالما ، مهنيا أو كاتبا ، لا يهم ، فهي لا تمنحك لقبا ولا تصنع لك نصبا ولا تطلق اسمك على شوارعها ومبانيها ومطاراتها، لا تصنع لك التماثيل ولا تضع صورك على مبانيها ، واقع الامر انها لاتحفل بك ولا تحاول ان تجعل منك نموذجا وقدوة لغيرك و للاجيال القادمة ، ليست من وسيلة عملية افضل واسهل لدراسة التاريخ وبناء ثقة الافراد في انفسهم وبلادهم من تجسيد رموزه فيزيع صيتهم من خلال انجازاتهم ويحفز ذلك الاجيال الجديدة وغيرهم للسؤال عنهم كما وأن هذا أمر سيعود بنفع اقتصادي مباشر وسيبادل الناس البلد الحب ،لتقنع الآخرين بما لديك يجب عليك أن تعرف ما لديك وأن تؤمن به بداية ،اليس مدهشا اننا لا نجد اثرا لحضارة كوش العظيمة التي حكمت من كبوشية وحتى البحر المتوسط ولأكثر من الف عام ؟ اين حديقة نبتة واين متحف مروي واين هو مجسم السلطان على دينار كاسي الكعبة وصاحب الانجازات العظيمة ؟ بخل الخرطوم ليس داءا” جديدا او طارئا” سادتي حتى لا نخدع انفسنا ، انه داء قديم ومتجذر في الجينات فيما يبدو والا فما عليك سوى إجراء مسح صغير لمعالمها البارزة وشوارعها الرئيسية لتكتشف كم هي اسماء جامدة ( دع جانبا اسماء الحكومات وقادتها ) ، ما ضّره مطار الخرطوم لو انه صار مطار الازهري او مطار ترهاقا وما ضر مطار الخرطوم الجديد ( لا حظ الكسل الذهني في هذه التسمية ..الجديد !! ) ما ضره لو اصبح مطارعبدالله الطيب اوعبدالفضيل الماظ ،يا الهي ، كيف تصنع القدوة في هذه البلاد ؟.

فيما يبدو ان هناك سبب اصيل لحزن هذه المدينة ، واصالة هذا الحزن يتجلى في كونه ظل عصيا على كل الانظمة ، مدنيها وعسكريها ، و يبدو لي إن هذا الحزن قديم قدم الخرطوم نفسها ، وليست مظاهر قسوتها البائنة الا انعكاس لطبيعتها ، ترى لم هي حزينة ؟ أهي قديمة بالية ؟ ام لأنها تحس بالغيرة من رصيفاتها ، فثمة مدن وعواصم اقل عمرا منها بكثير ولكن وضعها افضل ولأنها ترى فضلا على هذه المدن ولكنها في المقابل لا تجد الاهتمام الأمثل فيتبدى ذلك في ضجرها البائن وفي قسوتها ؟ أتراها حزينة بسبب ابنائها اللذين يبدعون في صناعة الجمال للآخرين ويديرونه بكل حرفة بينما يضنوا عليها ببعض ما يفعلونه هناك ؟ ام تراها ضجرت من ابنائها اللذين يتشاجرون مذ خلق الله الارض ولا يقبل بعضهم بعضا ، فهي قد ملّت وضاقت بهم وقررت مستسلمة ان تذم شفتيها وتنظر اليهم ؟ فهم لا يرجى منهم رجاء ؟ ربما هي حزينة من مقدار الانانية اللذي يضرب ساكنيها ؟ أو لأنها حزينة كونها لا تعرف من هي ؟ وربما لأن ابناءها لا يقبلونها ؟ اظنهم يفعلون ذلك لانهم لا يقبلون انفسهم ؟ لعله بعض ذلك ولعله كل ذلك.
إنه لمن المؤسف أن احدا لم يحتفي بهذه البلاد ولم يكتشف جمالها ولم يعمل على تسويقه ، طبيعتها السهلة الخلابة ، محمياتها وغاباتها ، ملتقى النيل العظيم وسليل الفراديس ، وبشمسها وبشلالاتها ، لم يحتفي احد بمزيجها المتفرد ، لم يحتفي احدا بتاريخها وحضارتها ، لسبب ما يعتقد الكثيرون انها طارئة او انهم طارئون ، اي تاجر فاشل هذا اللذي يعرض بضاعته بهذه الطريقة ؟ ليس هناك من سبيل سوى العمل على تغيير هذا الواقع ومحاربة هذا الجين الوراثي ، نحتاج الي ارادة وعزيمة قوية ونحتاج الي رؤية وإلي قيادة وعمل جماعي فالفقر ليس فقر الموارد ولكنه فقر الهمم .

عثمان أحمد

‫5 تعليقات

  1. السودانيون جبلوا علي عدم تعريف انفسهم ، وبالتالي لاتنتظر منهم ان يعرفوا رمز من الرموز حيا” او ميتا” ، مثلا” السوداني تجده متمكن في مجال عمله ويكون من افضل الناس في الاخلاق وفي التعامل وتجده عندما يدخل معاينة لايعرف نفسه كما يفعل الاجناس الاخري خاصة خارج بلده ، ولذا تجده يشتغل باقل الاجور وبادني الاوضاع خلافا” للاجناس الاخري . ولذلك لاتنتظره ان يفعل ماتقدمت به ، والمثل يقول فاقد الشيء لايعطه ، ولاكن كما ذكرت لابد من التغيير .

  2. ده مـلااااح شــنووووووووو كـمـان ؟
    خلاص تاني كل يوم قدونا بي احمد عثمان ده هو ورفيداوقبلها ودالمرغيني

  3. [SIZE=4]يا شاب انت زول رومانسي وعلي نياتك خالص. انت عايش وين؟ في أوكلاند !!

    ناخد مثال تسمية مطار الخرطوم… اذا أرادوا تسميته بالأزهري فسيقف أمامهم من يقول ولماذا لا تسمونه بالامام المهدي ! واذا أراضوا تسميته عبد الفضيل الماظ .. فستجد من يقول لك أن الماظ هذا أصبح أجنبي يتبع لدولة أخرى .. وفي النهاية المطار ما حي يقوم بسبب الاختلاف علي الاسم… لك الود.

    ملف ضيق :

    صورتك تبدو زي صورة الباسبورت اللي فيهو ختم.
    [/SIZE]

  4. الاخ احمد عثمان .
    تحية طيبة بس علشان تتأكد من دقة وصفك لاحظ التعليقات الواردة اعلاه وتعرف مكمن الداء …..البشر …..البشر والثقافة السالبة والنفسية السودايوية ….. دون البحث عن روح الامل والتفائل . وفق الله الجميع لما فيه الخير

  5. [SIZE=4]يا (واحد) .. يا خي كان ممكن نكضب ونكتب ليهو كلام حلو (أي كلام) .. المسألة مش ثقافة سالبة أو نفس سوداوية .. انما الحديث بصراحة عن الوضع الحاصل. كلامه كويس بس يعتبر (ترف) مقارنةبواقع الناس .. هل المشكلة أصبحت تسمية قبر الجندي المجهول ! هل المشكلة هي احتفاء الخرطوم بنفسها ! ان ثقافة السالب المتجذرة هي ملح الناس وملاحهم. واذا أردت أنت تعرف مدي حضارة الخرطوم، تقدم (في مدينة الخرطوم) لخطبة بنت من خارج نطاق الأهل والمعارف، 90% منهم سوف تكون اجابتهم أدينا فرصة نشاور، وأهم محاور الشورة هذه هي معرفة الي أي قبيلة تنتمي !! قال .. احتفاء .. قال ! لك الود.[/SIZE]