جنوب السودان .. الصعود إلى “قمة الفشل” من سيئ إلى أسوأ
اُعتبرت القمة الرابعة والعشرون التي انعقدت مؤخراً بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا، الفرصة الأخيرة لانتسال دولة جنوب السودان من هاوية الفشل التي تردت فيها خلال الثلاثة عشر شهراً الماضية من الصراع المسلح بين الحكومة والمعارضة المسلحة، والتداعيات الخطيرة والمدمرة التي انطوى عليها ذلك الصراع.
وكان موضوع جنوب السودان أحد القضايا الرئيسة التي تضمنتها أجندة القمة – بجانب احتواء مرض الإيبولا، وتنامي تهديد جماعة بوكو حرام- والتي اختتمت في 31 يناير المنصرم.
في السياق، لم تتمكن الوساطة الأفريقية التي تقودها (الإيقاد) من إحراز تقدم في كافة جولات التفاوض التي جرت بين الأطراف المتحاربة، وخرقت أكثر من ست اتفاقيات لوقف العدائيات بينهما، كما أن أطراف الصراع نقضت على ما يبدو الاتفاق الذي وقع بينهما في العاصمة التنزانية، أروشا مؤخراً، وهدف هذا الاتفاق إلى توحيد فصائل الحركة الشعبية – الحزب الحاكم – وإعادة توحيدها مجدداً، والتمهيد لإنجاح مناقشة القضية خلال القمة الأفريقية.
دولة فاشلة
خيّب نموذج دولة جنوب السودان التي انضمت إلى نادي الدول المستقلة بالأمم المتحدة، آمال العديدين في العالم، ولم تمض إلا سنة واحدة من ولادة “جمهورية جنوب السودان” حتى بدت الصورة القميئة لأسوأ صور “الدولة الفاشلة”.
وشهد العالم نماذج للدولة الفاشلة أو المنهارة والتي تتعدى تداعيات فشلها وانهيارها لتغدو تهديداً لمحيطها الإقليمى والأمن والسلم الدوليين، خاصة عندما تتحول تلك الدول إلى ملآذات آمنة للشبكات وعصابات الجريمة المنظّمة، فضلاً عن الجماعات الإرهابية، والمثال الذي يستشهد به هنا الصومال، يبدو أن جنوب السودان في طريقه للتحول إلى نموذج جديد يتعدى “البلقنة” و”الصوملة” بمراحل بعيدة.
وكان الصراع المستمر حالياً، اندلع بين الرئيس الحالي لدولة جنوب السودان، سلفاكير ميارديت، ونائبه السابق رياك مشار في منتصف ديسمبر2013م، على خلفية مساعيهما للهمينة على السلطة في السلطة في ذلك البلد الوليد، والخارج لتوه من أتون أطول حرب أهلية شهدتها القارة الأفريقية.
تسويق نموذج
برزت جمهورية جنوب السودان إلى العالم، في السابع من يوليو2011م، كأحدث دولة في العالم واحتلت الرقم 194 في عضوية الأمم المتحدة، كنتاج للتسوية السياسية التي تضمنتها “اتفاقية السلام الشامل” التي وقعت بين الحكومة السودانية/ المؤتمر الوطني، والحركة الشعبية/الجيش الشعبي بجنوب السودان، وونصت تلك الاتفاقية على أن تجرى في نهاية الفترة الانتقالية استفتاء يخير بموجبه شعب جنوب السودان بين الانفصال أو البقاء ضمن السودان الموحد، وكانت النتيجة أن اختار الجنوبيون في السابع من يناير2011م الانفصال عن السودان وتأسيس دولتهم المستقلة بنسبة 98 %.
ويرى مراقبون، أن إقليم جنوب السودان لم يكن مؤهلاً للتحول إلى دولة مستقلة، وأن القوى الغربية التي تولت توفير الدعم السياسي والديبلوماسي لمشروع الحركة الشعبية، (السودان الجديد)، وضعت النخبة الجنوبية أمام مساومة سياسية قامت على شقين: الأول، التطلع حكم السودان كاملاً من خلال الانتخابات التي أجريت في أبريل2010م، وراهنت فيها القوى الغربية على اكتساح مشروع الحركة الشعبية لتلك الانتخابات، وبالتالي حُكم السودان وفق رؤية زعيم الحركة جون قرنق، ولكن ذلك الأمرً لم يكن واقعياً.
أما الشق الثاني من تلك المساومة، فهو اختيار الانفصال، بغض النظر عن واقعية ذلك الخيار وقابليته للتطبيق، على النحو الذي تصورته تلك القوى التي روّجت له وسط قيادات الحركة الشعبية، ولم تدرك تلك القوى الغربية الراعية لمشروع الانفصال، التناقضات التي تنطوي عليها مجتمعات الدولة الوليدة، والتي هي أكبر بمراحل من التناقض المفتعل بين الشمال العربي المسلم/ والجنوب المسيحي الأفريقي، حيث تمت تعبئة النخب والعوام من أجل اختيار الانفصال في حد ذاته.
سوء تقدير
حظيت الحركة الشعبية بدعم مهول في الغرب، لم تحظ به أي حركة سياسية انفصالية في التاريخ القريب، وانطوت أهمية الحركة الشعبية في الغرب في أنها صادفت هوى في نفوس مجموعات الضغط المختلفة بالغرب، كالجماعات المسيحية واللوبي الصهيوني ولوبي الشركات ولوبي السود.. إلخ، كلها كانت جزءاً من لوبي “الدولة الفاشلة” بواشنطون فضلاً عن الدول الأوروبية.
وخلال عام واحد من بروز جمهورية جنوب السودان، تكشف للعالم حجم سوء التقدير وخطل الرهانات السياسية التي تبنتها الدول الغربية التي دعمت خيار الانفصال الذي أثمر دولة وصفت في بعض الكتابات بأنها: “دون الدولة الفاشلة”، فمصطلح “الدولة الفاشلة” قُصد به الدول التي تعاني من صراعات وتعجز عن حماية حدودها، ويعاني سكانها من الأزمات والنقص الخدمات العامة وتمزقها الاضطرابات..الخ، إلا أن دولة جنوب السودان تخطت تلك المراحل للتحول إلى ما أُطلق عليه “دون الدولة الفاشلة”، بمعنى أن الدولة الفاشلة أقل خسارة وتكلفة – خاصة من النواحي الإنسانية – من المرحلة التي وصلت اليها دولة جنوب السودان.
ويجادل الكاتب والباحث سفيان بن عزير، في مقال نشره منتصف يناير المنصرم في مجلة (foriegn policy in focus) بأن دولة جنوب السودان، ونتيجة للصراع الذي شهدته لا يستحق أن يطلق عليها “دولة”، وأنها تمثل أكبر الأخطاء في تاريخ سياسات بناء الدول في التاريخ المعاصر، مشيراً إلى أنه لا قادة جنوب السودان ولا قادة المجتمع الدولى لديهم الشجاعة الكافية لابتلاع هذه الحقيقة.
سخاء عالمي
وتدفقت الأموال بصورة مهولة (في شكل مساعدات وقروض وهبات..إلخ) على جمهورية جنوب السودان الوليدة، حيث أظهر المجتمع الدولى سخاءً غير عادي في حالة جنوب السودان، قلمّا وجد حتى في الحالات الإنسانية الأكثر إلحاحاً.
كما نشطت المنظمات الدولية غير الحكومية، والتي لها وجود طويل هناك، في تقديم واقتراح مشروعات لتنفيذها في الجمهورية الجديدة، وبذلت وعود عديدة، كما أن بعثة الأمم المتحدة لجنوب السودان (يوناميس)، والتي وصفت بأنها أكبر بعثة لحفظ السلام في تاريخ عمليات الأمم المتحدة، انخرطت من جانبها في عمليات إعادة ومشروعات تنموية، وإنعاش مبكر، إلا إن تلك الجهود الحثيثة والسخاء الدولي سرعان ما تبخر.
في العام الأول من عمرها، انزلقت البلاد إلى نزاع مسلح أسفر عن تكلفة إنسانية فادحة، بعد فشل البعثة (اليوناميس) في احتواء الصراع العرقي، الذي اندلع في العام2012م، بين النوير (أو الجيش الأبيض ـ مسلحون قبليون) من جهة، والمورلي من الجهة الأخرى، وكان بمثابة مؤشر على مآلات الأوضاع داخل البلاد، ولم يكن الجيش الشعبي- والذي كان يفترض به أن يكون الجيش القومي/ النظامي للدولة الجديدة – مجرد مليشيات قبلية ولاءاتها عشائرية، كما لم يزل يفتقر هذا الجيش إلى العقيدة النظامية، رغم ما أنفق عليه من أموال طائلة.
دولة متطوعين
أظهرت الإحصائيات التي تضمنتها التقارير الدولية تبوء الدولة الوليدة مرتبة متدنية في سُلم تصنيف دول العالم، خاصة في مؤشرات الفساد، والفقر، ووفيات الحوامل، والأمية..ألخ، على الرغم من تقديم المنظمات الدولية غير الحكومية لمساعدات حيوية لمجتمع اعتاد على تلّقى المساعدات والغوث من الخارج، ولم تكن الطبقة السياسية في الدولة الوليدة مهتمة إلا بنزواتها والولوغ في الفساد، والصراع من أجل الحصول على الامتيازات والمنافع، تاركة فئات الشعب تعيش في فقر مدقع، ووصف أحد الصحافيين الغربيين الذين زاروا الدولة الوليدة بعد عام واحد فقط من إعلانها، قائلاً: (العالم يشهد ولادة أول دولة تديرها المنظمات الطوعية).
وبنهايات العام الأول لظهور الجمهورية الجديدة إلى حيز الوجود، ازدادت وتيرة الضغوط على المانحين والمنظمات الإنسانية على حد سواء: فالدولة المانحة كانت تكابد تداعيات الأزمة المالية العالمية التي ضربت العالم 2008-2009 وظلت الدول الغربية تحاول إنقاذ اقتصادياتها من خلال خطط وسياسات الإنعاش، وقلصت نتيجة لذلك الأموال التي تقدم بغرض المساعدات الإنسانية.
ومن الجانب الآخر، انعكس تقليص المنح والأموال التي كانت تقدمها الدول المانحة لتمويل مشروعات الإنسانية عالمياً وبالأخص في جنوب السودان، وبعد دخول الدولة الوليدة إلى صراع مسلح منذ منتصف ديسمبر 2013م، غدت الأزمة في جنوب السودان تأخذ أبعاداً دولياً وإقليمية بصورة واضحة.
الثمن الباهظ
الأشهر التي مضت على الصراع كان الثمن فيها باهظاً، حيث تكشفت خلالها فظائع رهيبة أسفر عن الصراع، ووفقاً لإحصائيات الأمم المتحدة، فإن50 ألف شخص قد قتلوا في ذلك الصراع وشرد حوالي مليوني شخص في موجات نزوح داخلى، ولجأ زهاء 103 آلاف مدني طلباً للحماية في قواعد الأمم المتحدة، التي تقوم بفصل عرقي حتى داخل هذه المعسكرات، وهذا دليل آخر على مدى الانقسام الذي اتخذته الأزمة في دنوب السودان.
إزاء الحديث المتزايد عن ارتكاب طرفي النزاع بجنوب السودان لجرائم وتجاوزات خطيرة بحق المدنيين، والتي تم توثيقها من قبل لجان الأمم المتحدة، شكّل الاتحاد الأفريقى، لجنة لتحقيق أسندت إلى الرئيس النيجيري الأسبق أوليشغون أوباسانجو، ولم تتمكن هذه اللجنة حتى الآن من إعلان النتائج التي توصلت اليها.
وقرعت المنظمات الإنسانية جرس الإنذار من خطر المجاعة التي بدأت تلوح في الأفق بجنوب السودان، نتيجة لتصاعد القتال، حيث بات الأمن الغذائى التحدى الرئيس في هذه المرحلة، ومن المتوقع أن يزداد الوضع الإنسانى سوءاً مع استعدادات الطرفين لاستنئاف القتال بعد فصل الخريف.
وأدى اتساع نطاق القتال إلى قطع الطرق وعرقلة وصول المساعدات الإنسانية إلى المحتاجين، بجانب ازدياد موجات النزوح وللجوء إلى دول الجوار، خاصة السودان وإثيوبيا.
صراع إقليمي
منذ الأيام الأولى لاندلاع الصراع بين الفرقاء بجنوب السودان سرعان ما تحول إلى صراع إقليمي بعد تدخل يوغندا إلى جانب القوات الحكومية، وكذلك تورط متمردي الجبهة الثورية، وخاصة فصيل العدل والمساواة في القتال إلى جانب الجيش الشعبى الموالي للرئيس سلفاكير، وتركز الإسناد الذي قدمته العدل والمساوة في المناطق التي تعتبر بمثابة معاقل حصينة لها في ولاية الوحدة، حيث توجد معسكرات التدريب والإيواء، رغم إنكار دولة جنوب السودان أي صلات لها بحركات التمرد في السودان طوال الفترة الماضية.
وأكدت “مجموعة الأزمات الدولية” في أحدث تقرير لها صدر في التاسع والعشرين من الشهر الجاري، أن الفصائل الدافورية باتت أحد عوامل تصعيد الاقتتال بجنوب السودان، والذي اتخذ طابعاً عرقياً بين الدينكا الذين يتحدر منهم سلفاكير، والنوير الذين ينتمي إليهم رياك مشار، خاصة في ولاية الوحدة الحدودية مع السودان، ويتحدث السكان المحليون بولاية الوحدة عن ارتكاب مقاتلي العدل والمساواة فظائع بحقهم، تمثلت في الاغتصاب والنهب والقتل وتدمير الممتلكات.
كما أصدر مشروع “التقييم الأساسي للأمن البشري في السودان وجنوب السودان” أواخر يناير الماضي تقريراً مماثلاً، بعنوان: (الصراع في ولاية الوحدة، وصف للأحداث حتى 29 يناير)، تناول الأبعاد التي أخذها الصراع خلال القترة الماضية والإتجاهات التي سيأخذها، مع استعدادات الطرفين للعودة إلى القتال والذي سيركز على السيطرة على حقول النفط.
عباس محمد صالح: صحيفة اليوم التالي