رأي ومقالات

أمير تاج السر : لعبة الحوارات

عثرت في مرات عدة، في مواقع إنترنت ثقافية، على حوارات جيدة، منشورة باعتبارها أجريت معي، مع اسم المحاور الذي أجراها، ولم تكن في الحقيقة أجريت معي، ولكن تم جعلها كذلك، ومؤكد أن هناك غيري من زملاء الكتابة، ربما عثروا على مثل تلك الحوارات، التي لم تجر معهم، وتباينت ردود أفعالهم: ففي حين كنت سعيدا بها، بدرجة كبيرة، كان غيري مبتئسا، ومتذمرا ويبحث بلا جدوى عن ذلك الصحافي الذي زيف آراءه، وتحدث بلسانه، ولا يستطيع العثور عليه، في غابة الإنترنت الواسعة المعقدة، والغاصة بالصيادين من كل نوع.
في الحقيقة، أنا أعتبر مثل تلك الممارسات، ليست عبثية إطلاقا، ولا يقصد بها مضايقة المبدع، سواء كان كاتبا أو فنانا، وتزييف آرائه، إلا نادرا، وبخلفيات أخرى، غير خلفيات الثقافة، وإنما هي في الغالب، اختصار ذكي للوقت الذي قد يهدر في تحضير أسئلة معقدة، وطرحها، والانتظار لأيام أو شهور، حتى يتم الرد عليها، وأحيانا لا رد على الإطلاق إذا كان المبدع مشغولا في مشاريع أخرى، أو مرهقا من التزامات حياته الشخصية. وكنت تحدثت مرارا، وفي منسابات متعددة، عن مسألة إشغال المبدع بالحوارات، لدرجة أن تلهيه عن مشاريعه الأصلية التي يحتاجها للاستمرار مبدعا، وفي الوقت نفسه لا بد من حوار من حين لآخر، يطل به، لإضاءة عمل جديد، قد يحتاج إلى إضاءة. لكن أيضا وبكثرة التكرار، وربما بوجود صحافيين يعملون في الشأن الثقافي لسنوات طويلة، ومع دقة المتابعة، باتوا يعرفون مفاتيح المبدعين الموجودين في الخريطة الإبداعية، ليس كلهم بالطبع، ولكن أولئك الذين امتلكوا تاريخا معينا وحضورا طاغيا لزمن، واستمرارية للتجربة، هؤلاء لهم أسئلة عامة وجهت إليهم عشرات المرات وأجابوا عنها بصبر، وأسئلة خاصة بإبداعهم وجهت لهم أيضا وأفاضوا فيها، والذي يريد أن يجري حوارا مع أي من هؤلاء، إن دقق في البحث سيعثر على أجوبته مجابة بالفعل قبل أن يطرحها، وبالتالي فإن الحوارات موجودة بالفعل وجاهزة، ويمكن وبتعديلات بسيطة في صياغة الأسئلة، أن تكون حوارات جديدة، أجريت مع المبدع.
المهنة مثلا، تشكل محورا متكررا، في الحوارات، وغالبا ما يسأل عنها المبدع الطبيب أو القاضي، أو رافع الأثقال، أو حتى الكناس في إدارة البلدية، الذي يكتب الرواية: ما علاقة الطب بالأدب؟ ما علاقة كنس الشوارع بالرواية؟ ما الذي جعلك وأنت مصفف شعر كبير، إلى كتابة الرواية؟ هكذا.
الجوائز، محور متكرر، إن كان المبدع حصل على جائزة مهمة من قبل، أو لم يحصل عليها، ويتطلع بترشحه الدائم كل عام، أن يحصل. الأدب الإقليمي لكاتب ما، خاصة الكتاب الذين قدموا من الأطراف، ومن بلاد لم يلمع فيها كتاب كثيرون بسبب البعد عن أضواء المركز، وصعوبة النشر، مثل السودان وموريتانيا والصومال.
هل يوجد في بلدك كتاب جيدون؟
هل هناك حركة أدبية بمستوى جيد؟
ما موقع أدبكم المحلي، وسط الآداب الأخرى؟
كنت أعرف صوماليا متوجسا، ألف رواية جيدة عن الحرب والقبلية، والجوع، والنزوح الخطر، وسطوة المليشيات الدينية على الحياة في بلاده، وأبى أن ينشرها على الرغم من إلحاحي عليه، أن يفعل، قال إنه ليس كاتبا مهما، ولا يعرف إن كانت بلاده، أنجبت كتابا مهمين أم لا؟ لأنها لم تعد بلادا منذ أوائل الثمانينيات، من القرن الماضي، وكل إنجاز يخصها، هو إنجاز في المنافي، ولو نشر الرواية، سيسأل حتما عن حياة بلاده الثقافية، ومن أهم كتابها، وسيبدو جاهلا. بالطبع هذه ليست أسبابا مقنعة، ولن تكون سببا في تغطية عمل جيد وحرمانه من التنفس خارج حدود الأدراج والخزائن، وأعتقد شخصيا، أن الأمر كان توجسا وخوفا من خوض تجربة، قد تنجح وقد تفشل، وهناك من يسعد بالنجاح، لكنه غير مستعد إطلاقا لتحمل الفشل.
المبدع الذي نبع من بلد ممزق بسبب الحرب، واللعنة الطائفية، سيسأل عن ذلك، وربما وجه إليه لوم مباشر عن تقصير الأدب في التوعية الجماهيرية. هذا الكلام عن الأدب والتوعية، صار يرهقني شخصيا، ولطالما اقتنعت وأشرت مرارا إلى أن الأدب لم يعد صاحب نفوذ في أي مرحلة من مراحل التوعية، ولو أدى مهمة نفخ العقول الميتة بروح من المعرفة، لكان جيدا جدا ويكفي، والتنظير إلى أبعد من ذلك يعد ترفا.
ماذا عن محور التأثر بأحد؟ التأثر بكاتب سابق أو فنان آخر له تاريخ وصيت بالنسبة للفنانين؟ هذا أيضا محور يتكرر كثيرا، وأعتبره محورا وغدا، يبحث عن إجابة واحدة، هي: نعم، لقد تأثرت بكاتب ما، تأثرت بعدة كتاب، هكذا..
لماذا دائما يوجد كاتب تأثر بكاتب سابق؟ ويحال نتاجه ونجاحه، لذلك الكاتب؟ وإن لم يكن الكاتب متأثرا فقطعا هناك أصداء؟ في البداية، وحين كان يلقى عليّ السؤال هذا، كنت أنفي تأثري بأي كاتب، وأردد في ثقة، أن لي طريقتي، التي قد تعجب البعض ولا تعجب البعض الآخر، والتقيت مرة في الخرطوم، بناقد سوداني، انتحى بي جانبا وقال: لماذا تنفي تأثرك بالكتاب الآخرين باستمرار؟ حتى ماركيز وهو أهم منك، مئات المرات، ذكر تأثره بوليام فوكنر، وعدد من كتاب أمريكا الذين سبقوه، هل تظن أنك ستنجو بإنكارك؟ أنت متأثر بأدباء أمريكا اللاتينية.
بصراحة، استغربت كلام ذلك الناقد، لكني، أخذته بجدية، فالسؤال يريد هذه الإجابة بالذات، ولا يحب إجابات النفي، نعم الآن في كل حوار جديد:
بمن تأثرت؟
بأدب أمريكا اللاتينية.
إذن، تتعدد المحاور، وتتخذ صيغا مختلفة في الأسئلة، لكن الأهم أن الإجابات واحدة ومكررة، وما على الذي يود أن يجرجر كاتبا في حوار، إلا أن يبحث بجهد قليل، ليجد إجاباته كلها موجودة، ومن ثم يصيغ حواره.
كاتب سوداني
أمير تاج السر

القدس العربي