حلقة فنان أفريقيا الأول .. إختلاف وإسرار
ظللنا دائماً نطالب القنوات الفضائية بنفض غبار الكسل، والبعد عن الدوران في فلك التكرار والتقليدية، فجلوس مجموعة ضيوف للثرثرة في أي موضوع بات هو السمة الأساسية لكل البرامج على اختلاف تخصصها وطبيعة طرحها، ونوع القضايا التي تناقشها، الكاميرات متسمرة بالأستديوهات لا تتحرك مطلقاً، وإن فعلت ذلك فإنها لا تخرج من إطار (الإفادات المعسمة)، والإستطلاعات المحفوظة
أكثر ما تميزت به حلقة الذكرى الرابعة لرحيل فنان إفريقيا محمد وردي، التي أعدها وقدمها الزميل هيثم كابو.. أنها تمردت على المألوف، فقد شاهدنا مقدم السهرة يجلس داخل الأستديو لوحده بهدف (الربط والتعليق)، بعد أن تسلح بعدد وافر من المحطات الخارجية المشبعة بالأسئلة الحوارية حيناً، وطرح القضايا حيناً آخر، فلأول مرة نشاهد الكاميرا خارج الأستديو في (سبع محطات مغلقة)، كل منها يصلح أن يكون برنامجاً قصيراً لوحده، فالاستهلال كان في ذهاب الكاميرا لإجراء حوار تحليلي امتد لقرابة الربع ساعة مع الشاعر والكاتب الصحافي فيصل محمد صالح حول جزئية مهمة وغير مطروقة، وهي إرادة وردي وكيفية تغلبه على المصاعب المختلفة وتشبثه بالحياة، بدليل أنه ظل يغني لآخر أيام عمره وهو شيخ في الثمانين
جديد وردي ..رسائل لم ندركها بعد
الخروج الثاني للكاميرا، كان في ذهابها للشاعر الأستاذ سعد الدين إبراهيم الذي غنى له وردى عملين في سنوات عمره الأخيرة هما (نختلف أو نتفق، ونهر العسل) حيث قدم سعد الدين قراءة لأغنيات وردي الجديدة بما فيها (يا وجهها) لأمل دنقل، و(عصفورة) لهاشم صديق، ومن قبلهما (سلاف الغنا)، وكانت الوقفة في هذه المحطة لمعرفة الأسباب التي دعت وردي لتقديم أغنيات جديدة في خواتيم حياته، وهل كان في حاجة لأغنيات جديدة، وهو صاحب روائع خالدة لا تحتاج لإضافة (كوبليه جديد) ناهيك عن أغنيات كاملة
تقديم وردي لأغنيات جديدة في سنين عمره الأخيرة، كان بمثابة رسائل بليغة لجهات عديدة منها شباب الفنانين الذين يفضلون لواكة القديم والاجترار وتقديم المسموع والاستسهال، كما أن الرسالة تصل أيضاً لكبار الفنانين الذين أحجموا عن تقديم الجديد، وتشمل الجميع لأن الحياة حتى آخر نفس ماهي إلا تحدي وإنتاج وعمل
السياسة كانت هناك
اختلفت الحلقة في ربطها ومحطاتها وتعليقاتها وأغنياتها المصاحبة بإفرادها مساحة مقدرة للحديث عن (وردي السياسي)، منذ ثورة يوليو و(هب الشعب طرد جلادو) مروراً بالإكتوبريات وحقبة مايو، ووصولاً إلى عهد الإنقاذ وما تخلل تلك المسيرة من اعتقالات وسجون ومنافي وصعوبات حقيقية، وغربة اختيارية تميزت المحطة بأن هيثم كابو أختار للحديث فيها كاتب صحافي، ومحلل سياسي صاحب اهتمامات أدبية، وله إسهام في النثر والقصة والشعر، فالأستاذ محمد محمد خير بجانب كتاباته السياسية، فهو شاعر صاحب مفردة خاصة، وغنى له عدد من الفنانين، لذا لم يكن مستغرباً إدراكه لمسيرة وردي بشكل عام وتحليله لمواقفه السياسية، والفواتير التي سددها وردي الذي غنى في حقب مختلفة، وعرفه الناس بانحيازه للإشتراكية ومناداته الدائمة بالديمقراطية، و(حنبنيهو البنحلم بيهو يوماتي وطن شامخ وطن عاتي)
مركز وردي .. فتح الملف الكبير
عندما يكون معد البرامج صحافياً صاحب تجربة، فإن روح الصحافي الباحث عن المعلومة والمهموم بفتح الملفات المسكوت عنها دائماً، ما تظهر عليه حتى ولو كان يقدم حلقة تحليلية في ذكرى رحيل فنان، لذا لم أستغرب عندما خرج الزميل هيثم كابو بالكاميرا واتجه جنوب الخرطوم، ميمماً وجهه شطر ضاحية (أبو آدم)، حيث قطعة الأرض المخصصة لمركز وردي الثقافي ذاك المركز الذي كان يمثل حلم حياته، فقد قام الراحل بتسوير القطعة المطلة على شارع إبراهيم شمس الدين بالمواسير والسلك على إمتداد مساحتها، حتى يتم من بعد ذلك بنائها، فالحس الصحافي دفع كابو لمعرفة ما آلت إليه ونقلت لنا الكاميرا حالها الآن، إذ أن عدداً كبيراً من المواسير تمت سرقتها بجانب أن القطعة تحول جزء منها لميدان كرة قدم، وتم تركيب (العراضات) حتى يتسنى لبعض شباب المنطقة هناك اللعب فيها، واللافت أن البرنامج لم يكتفِ بمحاورة الشاب المكلف بحراسة القطعة، بل ذهبت الكاميرا لوزير الثقافة الإتحادي الأستاذ الطيب حسن بدوي في مكتبه، وسألته عن دور الدولة ووزارة الثقافة في إكمال ذلك المشروع الحلم، خاصة وأن المنطقة التي تقع فيها قطعة الأرض تحتاج لمركز ثقافي كبير يضم مسرح ومكتبة وقاليري وغيره من أوجه الإثراء الثقافي، ونأمل أن يظل ملف مركز وردي الذي تم فتحه في حلقة الذكرى الرابعة محل إهتمام أصدقائه وأسرته، ومنظمات المجتمع المدني والدولة والمهتمين بالثقافة والإعلام.
دخول الكاميرا لغرفة وردي
كان دخول الكاميرا لغرفة وردي بعد مرور أربع سنوات من رحيله عملاً إعلامياً مختلفاً، فقد رأينا كل شيء داخل حجرته كما تركه تماماً.. آلة العود لا تزال موجودة .. جهاز قياس السكري.. عسل النحل الذي كان كثيراً ما يتناوله .. العقاقير الطبية وكتاب (الدين والدولة) آخر ما كان يقرأه، وأجمل ما قالته ابنته جوليا والدموع تغطي وجهها إنهم يحفظون كل شيء كما تركه الراحل، لتتحول الغرفة مستقبلاً لمتحفه الخاص داخل المركز الثقافي .
معاوية محمد علي
صحيفة آخر لحظة