“إلا دموعــك إنتَ”!
أعلنت دقات الساعة منتصف الليل، وهو لم يأتِ بعد.. صحيح هي ليست المرة الأولى التي يتأخر فيها للساعات الأولى من الفجر، وربما قضى ليلته خارج البيت ثم انطلق لعمله في الصباح.. حتى يمر يومان دون أن تراه.. ولكنها هذه المرة تشعر بالقلق من غيابه.. لا تدري.. أهو شوق فاض بها نحوه نتيجة لانشغاله الكبير عنها في الشهر الأخير.. أم لقرب الانتخابات وهو أحد مواسم القلق؟! لا يهم.. أياً كان السبب فليس عليها أن تترك نفسها للحيرة وهواجس الشيطان.. فلتقم بتنظيف المطبخ وإعداد طعام الغد، ثم تشغل نفسها بمراجعة بعض ما تحفظ من كتاب الله.. فهي لا تستطيع النوم قبل عودته أو اتصاله بها ليطمئنها أين سيقضي ليلته..
وقفت أمام المرآة تنظر إلى زينتها، وذلك الثوب الرقيق الذي يحبه بشكل خاص، ثم ارتدت إسدال الصلاة الأبيض ونفحته ببعض عطورها الخاصة، وكذلك فعلت بسجادة صلاتها، وتناولت مصحف الحفظ خاصتها، وبدت الحيرة في عينيها الجميلتين اللتين زينتهما بالكحل والظلال الملونة.. فبأي سورة تبدأ المراجعة؟.. البقرة.. إبراهيم.. الزمر.. بل النور.. كلا، كلا.. ستبدأ بالكهف.. لا.. بل ستراجع آل عمران.. هذه السورة لها مكانة خاصة لديهما.. هو يحبها.. وهي كذلك.. خواطر جميلة بها جمعت بينهما.. وراحت تتلو الآيات وعيناها في حيرة بين باب المنزل وذلك الضوء الخافت الذي تضيء به تلك الشمعة الوردية الموضوعة بعناية بين الزهور وأواني الطعام المصفوفة على المائدة الصغيرة بجوار الشرفة.. وأذناها منصتتان لأي همس قد ينبئ بخطواته التي يتراقص على وقعها فؤادها طرباً..
وعند دقات الثالثة فجراً دار مفتاحه بالباب فنهضت مسرعة لاستقباله وعلى وجهها ابتسامة متألقة وفي عينيها شوق جارف عانق تلك البسمة الودودة والنظرة الحانية في عينيه المرهقتين.. كانت في لهفة حقيقية لصوته الشجي وهو يقص عليها تفاصيل يومه وأسباب تأخيره، ولكنها تركته ليبدل ملابسه ويتوضأ ويصلي ركعتي قيام حتى تعيد هي تسخين الطعام وإعداد المائدة.. لم يكن من عادتها أن تستحثه على الكلام.. فقط كان يكفي أن يرى تلك البسمة الهادئة على شفتيها وتلك النظرة التي تتوق للاطمئنان عليه وعلى دعوته.. لتتدفق الكلمات كنسيم الربيع من فمه.. ليرسو في مرفأها مرساة سفينة ويضع ببابها زمام راحلته.. ويستظل من هجير الحياة في ظل لمساتها الحانية..
وعلى مائدة الطعام تناثرت الكلمات كأريج الزهور..
– هو: افتقدتك طوال اليوم.
– هي: وأنا انتظرتك بعدد ثوانيه.
– هو: هل نامت “يقين”؟
– هي: منذ الساعة التاسعة.
– هو: ياله من يوم طويل! لقاءات وترتيبات وجولات.. ربنا يستر وتمر هذه الأيام على خير.
– هي: إن شاء الله.. لا تقلق.
– هو: كل المؤشرات تؤكد أنهم لن يسمحوا بنجاح أي من مرشحينا هذه المرة، والبعض يتوقع حملة اعتقالات واسعة.
– هي: كل شيء منتظر منهم.. إن لم تستحِ فافعل ما شئت.. لكن سبحان الله قلبي يحدثني أن نهايتهم قد دانت.. فما عاد لهم في قوس الفُجر منزع.. لقد تجاوزوا كل الحدود وبلغت استهانتهم بالناس ذروتها.. والناس وصلت لقمة الغضب والضيق واليأس.. حالات انتحار يومياً بسبب الفقر.. زنى محارم وقضايا نسب ونسبة عنوسة تتجاوز الـ9 ملايين.. وإعلام فاسد.. وبيع البلد لرجال أعمال.. واضطهاد واعتقال للشرفاء.. لم يبق لهم ذنب لم يقترفوه.. وصدقني.. هذه بداية النهاية.
-هو: صدقت.. “ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين”.. لكني أردت أن أخبركِ بذلك لتستعدي فلربما داهمونا بإحدى زياراتهم قريباً.
همت بالرد عليه قبل أن يقاطعها طرق شديد على باب المنزل، فنهض مسرعاً ليفتح وهو يتبادل معها نظرات ذات مغزى نهضت على إثرها ترتدي إسدالها على عجل، بينما اتجه هو إلى الباب وقبل أن تصل يده للمزلاج كانت إحدى ضلفتي الباب تصطدم بوجهه ويسقطا معاً على الأرض وتطأه أقدامهم وهم يقتحمون المنزل بهمجية مفرطة، ويحتلون أركانه.. نحّى ضلفة الباب جانباً وراح يعيد ترتيب هندامه وهو ينهض في هدوء ليستقبل الضابط الشاب الذي تبع رجاله الضخام في اقتحام المنزل، متلفظاً بألفاظ بذيئة وهو يسأله: أنت فلان؟ فأجابه بثبات: نعم أنا هو.. ومستعد لـ.. قاطعه بسباب بذيء آخر وهو يدفعه بعنف نحو ثلاثة جنود قائلاً: “ظبطوه”.. وانتم اقلبوا لي هذه الشقة رأساً على عقب “عاوز عاليها واطيها”. كانت قبضاتهم وأحذيتهم الثقيلة تنال من جسده المنهك في حماس عجيب كأنها في مارثون لإصابته بأقصى قدر من الألم، ولكنه لم يأبه لهذا وعيناه معلقتان على باب الغرفة الذي فتحه الجنود عنوة.. وتلك الجالسة في هدوء على طرف الفراش يكللها وقار المحتسبين.. وهتف بصوت متقطع من الضربات المتلاحقة: البيوت لها حرمات زوجتي هنا وطفلتي نائمة.. يعلم جيداً أن هتافه لن يجدي فيهم نفعاً، ولكنه لم يستطع كتمانه بعكس أنينه الذي كان يكبله بعزيمة من حديد. أما هي فقد قابلت عاصفتهم التي اجتاحت غرفتها الخاصة بهدوء بالغ وهي تنهض لتقف على باب الغرفة من جهة الصالة التي يقبع هو فيها بين أيديهم وأرجلهم المتناوبة على جسده المسجى أرضاً، ومن بين سحب الابتلاء التقت أعينهما وتبادلت رسائل خاصة جداً في صمت بليغ، قطعته يد آثمة امتدت إليها لتدفعها في عنف نحو أحد المقاعد وصاحبها يهم بأن يوجه إليها أسئلته، قبل أن يفاجأ وجنوده به ينتفض كإعصار متخلصاً من كل آلامه وهو يندفع نحو الضابط ليلصقه بالجدار محذراً: إياك أن تلمسها. وما هو إلا جزء من الثانية حتى أفاق الجنود من المفاجأة وانهالوا عليه ضرباً بوحشية بالغة، بينما نظر إليه الضابط نظرة مقيتة وهو يبتسم في خبث قائلاً: أتخاف عليها إلى هذه الدرجة.. لنرى إذاً إلى أي مدى، وامتدت يده الآثمة مرة ثانية إليها قاصداً حجابها لينتزعه، ولكن يده توقفت في الطريق عندما قاطعته نظرة صارمة من عينيها وبصقة أصابت وجهه بدقة بالغة، فاتسعت عيناه من المفاجأة قبل أن تحول يده طريقها من رأسها إلى وجهها في صفعة مدوية. ومرة أخرى يتوقف المشهد عند رسائل العيون.. ولكنها هذه المرة كانت محملة بدمعتين تحجرتا في عينيه وهو يشعر أن هذه الصفعة دوّت بين ضلوعه وزلزلت وجدانه..
شعر لأول مرة بضعفه وعجزه عن حمايتها.. شعر أن وهن الدنيا قد أصاب جسده وأنه يكاد يتساقط مزقاً.. شعر لأول مرة بألم ركلاتهم ولكماتهم وكاد يطلق العنان لأنين جراحه لينطق الآه.. شعر لأول مرة أنه لا يستطيع أن يبقي رأسه مرفوعاً على كتفيه، وأنها ثقيلة للغاية ولا يملك إلا أن يطأطئها. ولكنها قطعت عليه السبيل بنظرة تحمل رسالة يسطرها فؤادها.. ومن بين ضجيج وحشيتهم يسمع جيداً نبضها.. “لا.. لا تبكِ.. والله ما ازدادوا إلا ذلاً وما ازددت في عيني إلا عزاً.. أنت رجلي وستبقى.. هي لله وستبقى.. يمكنني تحمل أي شيء.. إلا دموعك أنت”.. وهنا فقط انتهى كل شيء.. وبقيا يحلقان معاً في أفق آخر بعيداً عن دنيا الأيدي الآثمة.
أهدي هذه الكلمات إلى أصحاب هذه الصور.. هي ضريبة حياة ارتضوها دفاعاً عن مبادئ آمنوا بها وبذلوا في سبيلها.. إنها “الرومانسية الدعوية”..
هافغنتون بوست