تحقيقات وتقارير

رشاد.. عروس الجبال الشرقية !! صور من السودان.. الحلقة الثانية

المنسي .. سلسلة تحقيقات أكشف لكم فيها سوداناً آخر غير الذي ترونه في الإعلام وتسمعون عنه في الأخبار.. السودان المنسي الذي يختفي في ظلام الإعلام، يكابد مرارة الحال وشظف الواقع..رحلة ما منظور مثيلا، مشاهد ولا في الأفلام صوَّرتها لكم بقلمي والكاميرا التي لا تنفصل عني قبل قراءة التحقيق، ارجوكم تأكدوا من وجود صندوق مناديل الورق بجواركم لمسح الدموع .. دموع الحسرة على وطن يقتله الشقاء والنعيم على ظهوره محمول..!!
تحقيق وتصوير: عباس عزت
الحلقة الثانية
وما أن لامست إطارات العربة مدخل مدينة رشاد، حتى شعرت بأنني في جنة الله بأرضه، فمدينة رشاد تتمتع بطبيعة ساحرة، إذ تكثر الأشجار والأعشاب النادرة والجميلة فوق سفوح الجبال والوديان، ما يجعل من الطبيعة الجبلية الخلابة في رشاد منطقة سياحية لا مثيل لها في العالم لو لا ظروف الحرب اللعينة، كما يفوح من قراها القديمة التي تعتلي سفوح الجبال عبق التاريخ، فرشاد أنموذج لإبداع الخالق العظيم في طبيعتها الجبلية المكسوة بالخضرة الناضرة.
الطريق إلى ديم سلك !!
وصلنا إلى (ديم سلك)، حيث مقر إقامتي وأنا غير واعٍ لسرعة الوصول بسبب جمال الطبيعة الخضراء والأجواء المنعشة، ورذاذ الأمطار البارد الرائع الذي غسل عني الكسل وأعاد إليَّ النشاط من جديد.. الطريق إلى موقع السكن، يمر بحي السوق ثم حي الموظفين الذي شيَّده المستعمر إبان فترة الحكم الثنائي (الإنجليزي – المصري) للسودان، ثم ديم سلك، وتشاهد أثناء مرورك بهذه الأحياء، الناس منهمكين في أعمالهم الزراعية وجلب مياه الشرب من المضخات القليلة المنتشرة في أنحاء المدينة، ولأهل رشاد مزارع صغيرة أمام منازلهم، وهي مخصصة لزراعة الخضروات الموسمية للاستهلاك المحلي، فتجدهم يعملون في جني بعض المحاصيل والفواكه، ومنهم من ينشغل بتعبئة إنتاجه من الطماطم والخضروات تمهيداً لبيعها في السوق صبيحة اليوم التالي، وهكذا الجميع في حاله.
الفصل الأمثل !!
وصلنا منزل مضيفي الأستاذ عبدالله محمد أحمد (أحد أقرباء مختار، منسق الرحلة)، الذي رحَّب بي كعادة أهالي رشاد الذين اتصفوا بالكرم والجود واستقبال الضيف، وبدت عليه السعادة الغامرة بحلولي ضيفاً عليه، حيث أنني قادم للتوثيق لمدينته وتسليط الضوء على نقائصها، وعندما سألته عن رشاد، تحدث وكأنه يصف لي شيئاً من الخيال، وذلك من خلال أسلوبه الهادئ في الحديث، فوصف رشاد بأجمل وأروع الكلمات وأخبرني أن الطقس في رشاد يكون أفضل ما يمكن في فصل الخريف، وذلك بفضل الخضرة التي تكسو الجبال المحيطة بالمدينة وتدفق الشلالات من أعالي الجبال وجريان الأودية والخيران واكتساء الأشجار النادرة التي لا توجد إلا في جبال النوبة بالألوان المتفاوتة، كما تزدهر الحقول والبساتين الصغيرة بأنواع فريدة من الثمار والخضروات التي تدهش الزوار، إن فصل الخريف هو الفصل الأمثل لزيارة رشاد والتمتع بطبيعتها الخلابة، ثم أردف قائلاً: إذا لم تتح لك فرصة زيارة رشاد في فصل الخريف، فلا تفوت المناظر الطبيعية المدهشة في موسم الحصاد، حيث تحتشد أسواق المنطقة الأسبوعية لاستقبال الثمار المختلفة وفي مقدمتها (الكرمدودة)، التي تستعمل لعلاج ارتفاع ضغط الدم.
أبوعنجة ومسكن الجن !!
وقال: إن مدينة رشاد تقبع فوق هضبة عالية يبلغ ارتفاعها حوالي 3000 قدم فوق سطح البحر وتحيط بها عدد من الجبال الشاهقة، ذكر منها: جبل (أبوعنجة)،الذي يحد المدينة من جهة الغرب، وهو الجبل الذي عسكر فيه القائد حمدان أبو عنجة إبان الحرب بين جيش دولة المهدية ضد جيش التركية السابقة، استعداداً لمعركة (قدير) الشهيرة في تاريخ السودان، وجبل (تملقن) الذي يقع في الاتجاه الشمالي الشرقي للمدينة، وجبل (فلاتة) في أقصى الشمال، أما في الغرب فنجد جبل (طاقوري) وجبل (الحوش)، الذي يعرف بجبل المك محمود، ثم جبل (طوران)، موطن المك الزيبق عبد الرحمن، ثم جبل (الجن) الذي يقع شرق المدينة، وذكر أن سبب التسمية يعود لاعتقاد الناس أنه مسكن للجن.. وقال: إن هذه الجبال تظل مكسوة بالخضرة معظم أيام السنة، وفي فصل الخريف تزداد نضارة وبهاء، وتصل قمة روعتها في فصل الخريف إذ تشكل مياه الأمطار المنحدرة من أعالي الجبال شلالات تخلب الألباب وتكثر الخيرات من ثمار الأشجار.
وقبل أن يسترسل في الحديث دخل على مجلسنا، المهندس (علي هارون)، وخاله (الطاهر) الخبير بمسالك جبال المنطقة ودروبها، فهو خبير بجميع مناطق جبال النوبة الشرقية السياحية، ومعلوماته قيمة جداً بحكم هوايته في ممارسة التصوير الفوتوغرافي، و قد أصبحا فيما بعد رفيقاي في رحلتي لأعالي الجبال الشرقية وكانوا خير معين لي في رحلتي ومدوني ببعض الصور الجميلة لمشاهد لم أحظ برؤيتها، إذ وصلت بعد انتهاء موسم هطول الأمطار.. وبدلاً من أن استلقي وأنام وجدت نفسي أتجاذب معهما أطراف الحديث حتى ساعة متأخرة من الليل، كان الحديث عن الجبال وسكانها شيِّقاً، وخصوصاً الأساطير التي تروى عن جبل (الجن) الذي يقف شامخاً على الجانب الشرقي للمدينة..(سوف أفرد له مساحة كبيرة في الحلقات القادمة)، ولكن التعب أدركنا فاستأذنت منهم لآخذ قسط من الراحة على أن نلتقي صباح اليوم التالي لزيارة الجبال والتعرف على خصائصها وما تحتويه من أشجار نادرة عن قرب.
صباح الريفي!!
استيقظت باكراً لمشاهدة شروق الشمس من خلف جبل (الجن) الذي يقع على الجهة الشرقية للمدينة، رتبت أوراقي وتناولت شاي الصباح برفقة صديقي الجديد (علي) وحملت كاميرتي التي لا تفارقني أبداً، تحركنا، المهندس (علي) وشخصي، على أن نلتقي صديقنا الطاهر بسوق المدينة.. كان المنظر جميلاً عندما خرجنا إلى الشارع، خاصة وأن السماء كانت ملبدة بغيوم الشتاء والهواء البارد يداعب وجوهنا.. لهذه المدينة سحر غريب يخطف أنفاسك ويشعرك بالانتماء إلى بلد استمد الجمال من طبيعته ومن جباله الخضراء، من شعبه الذي يستغل دقائق الحياة ليعيشها بالكد في سبيل الاكتفاء الذاتي من خلال استغلاله لأي جزء من الأرض يصلح للزراعة، فالصباح الريفي لا زال محاط ببهجة من الجمال الطبيعي، ولا اعتقد أن أحدنا ينسى صوراً ذهنية لا زالت محفورة في ذاكرة الطفولة عن صباحات الريف وطقوسه اليومية التي تسير في تناغم جمالي ينعدم تماماً في حياة المدينة الصاخبة.. اقترحت على مرافقي بداية أن نتجول في سوق المدينة للتعرف على حياة الناس والجلوس مع كبارها ليحدثوني عن تاريخ (مملكة الحوش)، التي نشأت على أنقاضها مدينة رشاد، إلا أنه أخبرني أن الوقت ما زال مبكراً لزيارة السوق، إذ يفد الناس إلى السوق بعد التاسعة صباحاً، وذلك لأن معظم رواد السوق يهبطون بمنتجاتهم من الجبال والقرى البعيدة سيراً على الأقدام، وعلى ظهور الحمير، واقترح على أن نتناول القهوة أولاً على ضفاف الفولة ونستمتع بمشهد الفولة صباحاً، بعد أن نمر بجولة سريعة للتعرف على أحياء المدينة.
طريق الرهد !!
تحركنا صوب الفولة عبر حي الموظفين بمبانيه العريقة التي تم شيِّدها الإنجليز إبان فترة الاستعمار ومررنا (بالسرايا) مركز المفتش الإنجليزي، التي تحوَّلت إلى مركز لشرطة محلية رشاد، وبيوت الموظفين ذات الطابع الإنجليزي المميز، ثم سلكنا طريقاً ترابياً تحيط به الأشجار من الجانبين، أخبرني مرافقي أن اسمه طريق الرهد، وكان الطريق التجاري الوحيد الذي يربط جبال النوبة الشرقية بمدينة الرهد في ولاية شمال كردفان، وذكر أن الإنجليز كانوا يمهدون الطريق سنوياً عقب انتهاء موسم هطول الأمطار لنقل خيرات المنطقة إلى مدينة الرهد ومن ثم إلى بقية أنحاء السودان،ولكن أصبح مهجوراً الآن وتسير عليه العربات بصعوبة لتوقف صيانته منذ سبعينات القرن الماضي، لعطل أصاب (الكراكة) التي كان يقودها العم حسن مسلم، وهو من جذور تركية ومتزوج من إحدى بنات رشاد وله منها ابن واحد، ولم تتم صيانتها منذ ذلك التاريخ، وهي الآن قابعة بالحوش الخلفي للمحلية.
في وصف المدينة !!
وبخصوص الأحياء التي تكوِّن المدينة، ذكر أن المدينة تتكون من عدة أحياء وبعض القرى المجاورة، يتوسطها حي السوق الذي يضم بعض المحلات التجارية وسوق المحاصيل وسوق الحطب والفحم، وسوق (النسوان) اللاتي يفترشن الأرض عارضات منتجاتهن من خضروات ومحصولات غابية وبعض الفاكهة الموسمية، وفي الجزء الجنوبي الشرقي يقع مركز الحكومة ودواوينها المختلفة وإلى الشرق منها حي (الموظفين السودانيين)، ومنازل المفتشين الإنجليز، و(ديم سلك) وحي (تادارا)، وفي شرق السوق يوجد حي (الفلاتة) والمدرسة الشمالية، وشمالها حي (الرايقين)، وشرقهم فريق البقارة(كوز بقارة)، وفي جهة الشمال الشرقي نجد حي (الورشة) وحي (تملقن) القديم، ثم حي (طازبا) الذي يقع في الشمال الغربي للسوق، وفي الجنوب الغربي للسوق تقع أحياء (تدراوا) و(طاقوري) و(حي الحوش) ثم (حي جبل طوران)، وفي شمال السوق نجد حي (طابرنجة) وحي (سيرين)، أما في الجزء الجنوبي للمدينة فنجد حي (توكرنا) و(كلورو) و(كالوبا)، وأخبرني مرافقي أن هناك بعض القرى الجميلة التي لابد للقادم للمنطقة من زيارتها، وذكر منها: (حلة أمبير والفيض أم عبدالله، وبعض القرى التي تقع على طريق أبو جبيهة مثل تروبة وتاندك وتجملا، ومناطق خور العواي وقرية كابوس السياحية.
أواصل..

تحقيق وتصوير: عباس عزت
%d8%b1%d8%b4%d8%a7%d8%af4

%d8%b1%d8%b4%d8%a7%d8%af5

%d8%b1%d8%b4%d8%a7%d8%af6

%d8%b1%d8%b4%d8%a7%d8%af7

تعليق واحد

  1. شكرا على هذا الطرح الجميل وياريت الاستزادة من هذه الصور الجميلة