بوتين على خطى هذا الرجل..
على الرغم من انخفاض أسعار النفط، والعقوبات الغربية على موسكو، إلا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ركز على إحدى القضايا المصيرية بالنسبة لروسيا.
هذه القضية طرحت على الملأ في أكتوبر/ تشرين الأول عام 1999 بين مجموعة من العلماء الروس. وهذا التاريخ (عام 1999) يعني الكثير بالنسبة لروسيا ما بعد السوفيتية، لأنه كان العام الأخير في حقبة الفوضى والانهيار الاقتصادي والاجتماعي. وهو أيضا العام الذي انتهى بإعلان الرئيس بوريس يلتسين استقالته، ونقل سلطاته إلى رئيس الوزراء فلاديمير بوتين.
بوتين، وبعد 17 عاما، دعا إلى عدم الاقتصاد في الإنفاق على العلوم الأساسية، لأن هذا قد يؤدي إلى تأخر البلاد مستقبلا. بل وشدد على أن حجم تمويل العلوم يجب أن يبقى كنسبة مئوية من الناتج الإجمالي المحلي. وقال “على الرغم من الوضع الصعب، لكن من الضروري الحفاظ على مستوى النفقات على العلوم الأساسية كنسبة مئوية من الناتج الإجمالي المحلي. وإذا ادخرنا اليوم، فمن دون شك سنكون متأخرين غدا. وهذا لا يمكن السماح به. لذلك، فإلى جانب أموال الميزانية، سنقدم أموالا خارج الميزانية للحفاظ على حجم تمويل العلوم الأساسية كنسبة مئوية من الناتج المحلي على مدى العامين أو الثلاثة المقبلة”.
هذا الكلام المهم والخطير، والمصيري، قيل خلال اجتماع مجلس العلوم والتعليم، تزامنا مع مواجهة بوتين للفساد في أكاديمية العلوم وبعض أجنحة السلطة. وفي الحقيقة، قال بوتين كلمته ضد الفساد والاستهتار بدون مواربة أو خوف أو خجل.
– يجب علينا مرة واحدة وإلى الأبد التخلي عن هدر موارد الميزانية بشكل عشوائي.
– ضرورة امتناع ممثلي السلطات، بمن فيهم مسؤولون كبار، عن المشاركة في انتخابات أكاديمية العلوم الروسية.
– إقالة المسؤولين الذين أقدموا على إعادة الانتخاب في أكاديمية العلوم الروسية.
هذه النقاط الثلاث تدخل ضمن إطار مكافحة الفساد بشكل عام، والفساد المقنن على وجه التحديد. ولكن بوتين قرر أن يضرب بشدة، لأن البلاد تواجه عددا من المخاطر والتهديدات، من بينها الإرهاب، وتحديات الناتو، والعقوبات الغربية، وانهيار أسعار النفط. إضافة إلى مشاكل داخلية أخرى. وبالتالي، فقد أعادنا بوتين إلى الوراء 17 عاما عندما التقى حوالي 10 من أكبر علماء روسيا حول طاولة مستديرة، نشرت صحيفة “نيزافيسيمايا غازيتا” تفاصيلها في ملحقها العلمي بتاريخ 20 أكتوبر 1999، تحت عنوان رئيسي (العلوم الروسية في الألفية الثالثة: اختيار الرسالة)، وعنوان فرعي مهم (العلوم الطبيعية في البحث عن توازن بين المنطق الداخلي للتطور الذاتي وبين القانون الاجتماعي).
وإذا كان الأمر الظاهر هو مسألة دعم وتمويل العلوم، وكأنها تشكل عبئا على الميزانية، أو تمثل عالة على كاهل المجتمع والدولة، فإن الواقع والحقيقة هو أن العلوم في الدول المتقدمة، ومن بينها روسيا، تمثل أحد أهم مصادر الدخل القومي. ما يعني أننا نتحدث عن إحدى ركائز الأمن القومي التي إذا تعرضت للفساد أو الاستهتار والتقاعس، فقد تصبح البلاد عرضة للتراجع عشرات السنين إلى الوراء.
في أكتوبر عام 1999، وبمناسبة مرور 275 سنة على تأسيس أكاديمية العلوم الروسية، وقف الأكاديمي، البروفيسور فيتالي غينزبورغ في مواجهة زملائه من الأكاديميين والعلماء الذين حاولوا الركون إلى العمل في المناصب الحكومية، وتبرير التدهور العلمي، والتعلل بعدم وجود الطلب الاجتماعي أو التكنولوجي (التطبيقي) على العلوم، ليعلن: “إننا هنا نتحدث عن الطلب الاجتماعي. وأنا لا أنفي وجود قضايا ومشكلات في الدولة وفي المجتمع، ولدى البشرية كلها. تلك القضايا والمشكلات مرتبطة بالمناخ والتكنولوجيــا وغيرها. ولكن هناك أيضا العلوم الأساسية التي لا يوجد فيها طلب اجتماعي، بل وليس من الضرورى أن يوجد من أساسه!”..
ويواصل غينزبورغ هجومه قائلا: “لقد تحدثتم هنا عن الفيزياء النووية. ونحن نعرف من التاريخ أنهم في حقبة الثلاثينات بالاتحاد السوفيتي سخروا من الذين كانوا يبحثون في نواة الذرة. بل وحتى كانت هناك قرارات حكومية بهذا الخصوص.. ومع ذلك كان الإيقاع الداخلي للعلم موجودا.. فى العدد الرابع من مجلة “منجزات العلوم الفيزيائية ” لعام 1999 قمتُ بنشر بحث تحـت عنوان “مشكلات الفيزياء والفيزياء الفلكية التي تمثِّل أهمية كبرى على أعتاب القرن الواحد والعشرين”، ولم أفكر أبدا في أي تطبيقات. لقد قمت ببساطة شديدة بإحصاء 30 مشكلة علمية”…
وردا على الانتقادات والهجمات الجماعية من العلماء والاكاديميين يقول الأكاديمي فيتالي غينزبورغ “إنني لا أنفي ولو للحظة واحدة ضرورة وجود قضايا هامة ومحددة – في بلادنا أو في أي بلد آخر – يجب أن يُبذل من أجلها الكثير، وفي المقام الأول: الأموال والطاقات العلمية. ولكننى أود أن أقول فقط إنه إلى جوار ذلك يوجد العلم ذاته. ذلك العلم الذي، ربما، من غير المنطقي أن نُقَسِّمَه إلى علم أساسي وعلم تطبيقي. ولن نمس هنا مسألة المعاني والدلالات الكلامية. ففي العلم، وتحديدا الفيزياء، توجد مجموعة معينة من القضايا والإشكاليات التي تتحدد بمنطق تطور الفيزياء نفسها، بينما الفيزياء يمكنها أن تبصق على ما دون ذلك: هل هذا يعود بالمنفعة على أحد أم لا؟! الأمر سيان، وهو يحدث وسيظل يحدث! ويحدث لدينا أيضا هنا! وهذا هو المنطق الداخلي لتطور العلم كعلم في ذاته، ومن غير الممكن نسيان ذلك أو تجاهله! أما كيف يحدث ذلك عندنا – فهذه قضية أخرى”.
الأكاديمي يفغيني سيميونوف دخل إلى المناقشة ليقول: “لعلني كنتُ سأتفادى تماما مصطلحا مثل مصطلح الطلب الاجتماعي، وتحديدا في علاقته بالعلم، لأن العلم عبارة عن منظومة دقيقة جدا ومعقدة. وكلمة مثل طلب لا تصلح بشكل عام ولا إرادى إلا للمطاعم أو أي أماكن أخرى مشابهة”. ويضيف: “إن أزمة العلم التي نعيشها هي أزمة عامة وشاملة. تلك الأزمة تنسحب على بناء الآلات، وعلى نسبة تزويد العلم بالمعدات التكنولوجية، وعلى بناء المجمعات العلمية ومن ضمنها المدارس. إن الأزمة تتجلى في كل شيء. ولكن هذه الأزمة، كما يبدو لي، تبدأ من أزمة الوظيفة الاجتماعية – الثقافيـة الهامة. فعندما يتحدثون عن طلب، ومن الواضح أن الحديث يدور فعلا عن ذلك، يفقد العلم في مجتمعنا وظائفه الاجتماعية – الثقافية الهامة”. ويؤكد سيميونوف على أن “الأزمة قد مسَّت مختلف فروع العلم بأشكال متفاوتة. ولعلها تبدو في مجال الفيزياء أعمق وأشد، بل وأكثر الأزمات – إذا جاز التعبير – إثارة للإشكاليات: من حيث الخروج منها. وهي ليست فقط في الفيزياء، وإنما أيضا في فروع العلوم الطبيعية الأخرى التي كانت مرتبطة بقوة المنظومة الصناعية العسكرية”.
من الصعب المقارنة بين أحوال العلوم الروسية في عام 1999 وعام 2016. ومع ذلك، فمن الضروري اتخاذ كل الاحياطات والإجراءات الممكنة لعدم الانتقال إلى وضع “السكون” بمعناه العلمي.
المهم هنا أن الأكاديمي فيتالي غينزبورج، الذي رأى 3 دول وحضارات (1916 – 2009)، والذي كان يشبه “الغراب الأبيض” بين الأكاديميين والعلماء الروس، حصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 2003، الأمر الذي لفت الأنظار إلى مقولاته المهمة بشأن تطور العلوم في روسيا. لكنه كان معروفا منذ الأربعينيات حيث شارك في مشاريع علمية حكومية في غاية الأهمية طوال حقبة الاتحاد السوفيتي وبعد تفككه أيضا.
بوتين في عام 2016، يعود مرة أخرى إلى عدم التخلي عن العلوم كإحدى ركائز الدخل والأمن القوميين لروسيا. ويكشف عن الفساد من أجل مواجهته، لا من أجل ذر الرماد في العيون أو القيام بحملات إعلامية.
روسيا اليوم