عالمية

بريطانيون لا يرغبون في العودة إلى وطنهم

ماذا يحدث إذا كنت تعيش خارج وطنك في وقت يصوّت فيه مواطنوك على أعظم الأمور التي ستقلب أوضاع البلد لعقود من الزمن؟ بعد تصويت المملكة المتحدة على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، يعيد الكثير من البريطانيين المغتربين النظر في خططهم للعودة إلى الوطن.

بعد الإقامة لأربع سنوات في ستوكهولم، أصيب جيسن نايت بالملل من ساعات الظلمة الطويلة وفصول الشتاء في دول الشمال الأوروبي المتجمدة. كان نايت قد قطع علاقته بحبيبته ويتوق بشدة لرؤية عائلته وكان يدرس مسألة العودة إلى المملكة المتحدة. ولكن بعد تصويت أبناء بلده بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي في يونيو/حزيران الماضي، قرر البقاء في السويد.

يقول نايت، وهو مساعد مدرس يبلغ 37 عاماً من مدينة برايتون بجنوب انجلترا. “أصبت بخيبة أمل شديدة لنتيجة التصويت وراودتني مشاعر قوية بأن العيش بعيداً عن بلدي والتمتع بالمنافع الحالية، باعتباري مواطناً من دول الاتحاد الأوروبي، هي امتيازات حقيقية ينبغي عليّ الاستفادة منها قدر الإمكان”.

وأشار نايت إلى أنه شعر بأن كثيرين قرروا الانسحاب من أوروبا دون تجربة العيش فيها حقاً، مضيفا: “هذا التصرف أغضبني وقلل من رغبتي في العودة إلى الوطن، في وقت كانت لديّ وظيفة ومستوى جيد من المعيشة هنا في السويد.”

جاء تصويت البريطانيين بالخروج من الاتحاد الأوروبي بمثابة صدمة للكثيرين في المملكة المتحدة وفي بقاع المعمورة، حتى إن البعض في بريطانيا بدأوا يبحثون بسرعة عن استراتيجية للخروج. وبعد الاستفتاء، ازدادت بشكل جنوني زيارة المواقع الالكترونية الخاصة بالهجرة إلى كندا ونيوزيلندا – كما كانت الحال في أعقاب الفوز غير المتوقع لدونالد ترامب في الانتخابات الأمريكية.

غير أن المغتربين البريطانيين، المقيمين فعلاً في بعض البلدان، شعروا بالقلق أكثر تجاه إقاماتهم الحالية. ويعيش أكثر من 1.2 مليون بريطاني في الوقت الراهن في دول الاتحاد الأوروبي ويتفق الخبراء القانونيون على أنه من غير المرجح ترحيلهم بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

عقب التصويت بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، قرر جيسون نايت البقاء في السويد

ورغم ذلك، ولأنه لا يزال على بريطانيا أن تبدأ رسمياً إجراءات الانسحاب أو التفاوض حول شروط خروجها من الاتحاد، فمن غير الواضح حالياً ما إذا كان هؤلاء المغتربون سيتخلون عن حقوقهم الحالية باعتبارهم من مواطني الاتحاد الأوروبي، والتي تشمل حقهم في العمل دون الحصول على تأشيرة دخول والتمتع بنفس حقوق المواطنين المحليين في الحصول على الرعاية الصحية.

يعد نايت واحد من عدد متزايد من البريطانيين الذين يفكرون في تجاوز هذا الغموض عن طريق تقديم طلب الحصول على جنسية البلدان التي استقروا فيها. وبينما لا نجد أرقاماً متوفرة لدى جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، أشارت دراسة حديثة إلى زيادة طلبات الحصول على الجنسية بنسبة 250 في المئة في 18 دولة منها خلال الأشهر الثمانية الأولى من عام 2016، مقارنة بعام 2015.

تقول فيكي هامبتن، بريطانية في الـ 36 من عمرها وتكتب عن الأطعمة وتقدمت بطلب الحصول على الجنسية الهولندية بعد أن قضت 11 عاماً في أمستردام: “لا يدري أحد ما سيحدث في المستقبل، وربما لن احتاج فعلاً إلى جنسية، ولكني لا أود المخاطرة.”

في أعقاب الاستفتاء، قررت فيكي وصديقها الأمريكي أن يتزوجا ليضمنا قدرتها على العيش في هولندا بعد خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، والعودة إلى أمستردام إذا ما قررا العمل لبعض الوقت في الولايات المتحدة.

تقول فيكي: “لكوني من المدافعات عن حقوق السيدات، لم أكن أنوي مطلقاً الزواج لتحفظاتي على كثير من التقاليد الأبوية المحيطة به. والآن يبدو لي الزواج حلا معقولا، مع أنه أمر متحجر. أضف إلى ذلك، من الواضح أننا لم نكن لنتزوج لو لم نكن نحب بعضنا!”

لكن ماذا سيحدث لو لم تكن فترة إقامتك، في بلد ما، كافية لتحقيق متطلبات التقديم على طلب جنسية ذلك البلد؟ ماذا لو خططتَ للعودة إلى المملكة المتحدة على المدى المتوسط؟ أو ماذا لو لم تتحمل فكرة العودة إلى بريطانيا أبداً، ولكنك في نفس الوقت تريد أن تبقى “بريطانياً” على الورق؟

تقدمت فيكي هامبتون بطلب للحصول على الجنسية الهولندية بعد أن أمضت 11 عاما في أمستردام
ريبة تلوح في الأفق

تثار مثل هذه الأسئلة، المتعلقة بتبعات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على البريطانيين الذين يعيشون في الخارج، يومياً على مدوّنات المغتربين من أمثال كاثرين هيغينسن التي تدير موقع “survivefrance.com” من منزلها، القريب من مدينة بياريتز في جنوب غرب فرنسا.

تقول هيغينسن: “تشعر الجماعات المغتربة بقلق بالغ إزاء خروج بريطانيا، ولا أحد يدري متى وكيف سيتم ذلك وهذا ما يجعل الناس يشعرون بالتوتر.”

وتشير هيغينسن إلى أن انخفاض سعر صرف الجنيه الاسترليني مقابل اليورو في أعقاب الاستفتاء قد أثّر فعلاً على المغتربين البريطانيين ممن يقبضون مرتّبات وظائفهم أو رواتبهم التقاعدية بالجنيه الاسترليني.

وتضيف: “أصبحت الأمور أسوأ بعشرة أضعاف بالنسبة لمن يعيش بميزانية محدودة. يشعر كثيرون بالفعل بأنهم قد علقوا لأنهم اشتروا منازلهم في أجزاء من فرنسا لا يرغب الفرنسيون بالعيش والعمل فيها، لذا فهم لا يستطيعون بيعها والانتقال إلى مكان آخر. أعرف أناساً لا يمكنهم تحمّل نفقات تدفئة غرف نومهم خلال هذا الشتاء.”

وفي إسبانيا، التي تعد أكثر الدول التي تجذب الوافدين البريطانيين، بدأ ريتشارد بارنيل، البالغ 45 عاماً، تقديم دورة جديدة لمن يريد الحصول على الجنسية الإسبانية من المغتربين البريطانيين. يدير بارنيل الدورة من مدرسته الحالية لتعليم اللغة في الجنوب الإسباني، بمنطقة “كوستا ديل سول”، وهي مصمَّمة لتعليم المهارات اللغوية والمعارف الثقافية المطلوبة لعبور امتحان الحصول على الجنسية الإسبانية.

يقول بارنيل إن كثيرين ممن سجلوا أسماءهم لحضور الحصص الدراسية هم متقاعدون يشعرون بالقلق بشأن فقدانهم حق الحصول على الرعاية الصحية الحكومية المجانية بصفتهم مواطنين في الاتحاد الأوروبي.

ويضيف: “إنه لشيء محبط، وخاصة لكثيرين ممن عاشوا في إسبانيا لما يزيد عن 15 عاماً ولم تتوفر لهم حتى فرصة الإدلاء بأصواتهم في ذلك الاستفتاء،” مشيراً إلى الأنظمة واللوائح التي منعت الوافدين غير المسجلين بعناوين بريطانية خلال السنوات الـ15 الأخيرة من حق التصويت.
طرفا الجدال

وبينما صوت 52 في المئة من الناخبين في المملكة المتحدة لصالح الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، كان أنصار ‘الانسحاب’ أقل شعبية بين الجماعات الوافدة من البريطانيين. كانت نادية كانّ، التي تعيش في منطقة ‘الغرب’ بالبرتغال، من بين الذين صوّتوا لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

تقول كان (40 عاما): “أشعر بالأسى لمن خسروا مالياً، لكن ليس هناك شيء مضمون في هذه الحياة حيث يمكن أن تخطط لأمور كثيرة ولكن سوء الحظ يعيق تلك الخطط.”

وتأمل كان أن تحافظ على كامل حقوقها الحالية، وخاصة لأن ابنتها الصغيرة تحمل الجنسية البرتغالية.

تعتقد كان أن التجارة ستكون أقوى “ويمكننا الحصول على صفقات أفضل مع دول ليست جزءاً من الاتحاد الأوروبي، مثل الصين.”

لا تتفق إيما بَتلر، وهي مديرة تنفيذية تقيم في إندونيسيا، مع هذا الرأي، وتقول: “شخصياً، لا أعتقد أن المملكة المتحدة قادرة على التفاوض للحصول على صفقات تجارية أفضل مع الدول الآسيوية، لأننا سنكون بلداً ذو اقتصاد صغير بعد خروجنا من الاتحاد الأوروبي.”

كانت بَتلر، 37 عاما من مدينة غلاسكو، تخطط للعودة إلى بريطانيا مع زوجها عندما بدأ ابنهما الالتحاق بمدرسة ابتدائية، لكن خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي جعل الزوجين يعيدان النظر بمستقبلهما.

تقول بتلر: “نشعر بالقلق بسبب عدم استقرار الاقتصاد البريطاني وإيجاد عمل إذا ما أردنا العيش خارج لندن، وفيما يتعلق بحق الحياة والعمل في أماكن أخرى بدول الاتحاد الأوروبي في المستقبل. لذا فإننا نفكر بالبقاء، حتى وإن كان ذلك يعني إنفاق مال كثير على تعليم ابننا في مدارس خاصة هنا كبديل لذلك.”

يعتقد كثيرون من المغتربين البريطانيين أن مدخراتهم تضررت بشدة نتيجة انخفاض قيمة الجنيه الاسترليني
الخوف من جرائم الكراهية

أعرب بعض الوافدين عن مخاوفهم من العودة إلى بريطانيا مع شركاء حياتهم الأجانب، بعد ورود تقارير تشير إلى ارتفاع جرائم الكراهية بنسبة 60 في المئة في أعقاب الاستفتاء.

تقول إحدى السيدات العاملات لدى مؤسسة خيرية في بوخارست، ولا تريد الكشف عن هويتها حفاظاً على هوية رب العمل: “ما يجعلني أشعر بالإحباط هو حالة التعصب التي يبدو وأن بريطانيا تتجه إليها.”

وتضيف: “ما يقلقني هو احتمال تعرض شريك حياتي لاعتداء إذا ما تجرأ وصرّح علانية بكونه من رومانيا. ربما أنا متشائمة، لكني لا أرى، وبكل صدق وأمانة، أن الأمور ستتحسن نحو الأفضل بسرعة.”

وبالعودة إلى منطقة ‘الغرب’ البرتغالية، تقول كان، المؤيدة لخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، إنه بينما “تشعر بالأسى لحالات الاعتداء هذه”، فإنها تفضل تقليص الهجرة إلى المملكة المتحدة برغم استفادتها هي من حرية التنقل باعتبارها مواطنة من دول الاتحاد الأوروبي.

وتضيف: “الهجرة عامل هام جداً بالنسبة لي رغم أني انتقلت للعيش في بلد آخر”، مشيرة إلى أنها تود لو أدخلت المملكة المتحدة نظاماً على النمط الأسترالي “للتأكد من كون جميع المهاجرين من أصحاب المهارات”.

وفي نفس الوقت، تشعر كان بالتفاؤل فيما يخص حقوق البريطانيين الوافدين بعد خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، وتقول: “على الجميع أن يهدأوا… دعونا نمر بهذه المرحلة ونرى ما سيحدث.”

BBC