عالمية

بريطانيا تواجه الإرهاب بنموذج “جيمس بوند”

فيما تسود حالة من الذهول في ألمانيا بعدما ضرب الإرهاب فرحة أعياد الميلاد، وفي وقت تستنفر فيه فرنسا أجهزتها الأمنية لتفادي ضربة أمنية جديدة، يتساءل البعض عن سر الهدوء في لندن. هذه العاصمة الأكثر أمناً في الغرب، لم تشهد أعمالا إرهابية “كبيرة” منذ تفجيرات وسط العاصمة في السابع من يوليو/تموز 2005. ولعل الأمن الذي تنعم به بريطانيا، يعود بالأساس إلى مجموعة عوامل لا تتعلق بالإجراءات الأمنية أو قدرات الأجهزة الاستخباراتية.

نعمة الجغرافيا
يُعد الموقع الجغرافي للجزيرة البريطانية “نعمة” من الناحية الأمنية. فانفصال أراضيها عن القارة الأوروبية، منح السلطات الأمنية في هذا البلد قدرة عالية للسيطرة على الحدود، وضبط تسرب الأفراد من الدول الأوروبية الأخرى. وأتاح الموقع الجغرافي لبريطانيا إغلاق حدودها أمام الأعداد الهائلة من اللاجئين والمهاجرين الذين يصلون إلى القارة الأوروبية ويتحركون بحريّة بين دول الاتحاد الأوروبي بفضل الحدود البرية المفتوحة بين دوله.


اكتسبت الأجهزة البريطانية خبرة واسعة من تجاربها مع الانفصاليين الإيرلنديين


والأمر الآخر الذي استفادت منه المملكة المتحدة للتقليل من الخطر الخارجي، يتمثل في عدم انضمامها لاتفاقية “شينغن” التي تتيح للأجانب دخول 26 دولة أوروبية بمجرد حصولهم على تأشيرة واحدة من دولة من هذه الدول. وكانت بريطانيا ومنذ انضمامها للاتحاد الأوروبي عام 1973، ترفض فكرة الحدود المفتوحة، وتصر على الاحتفاظ بالسيطرة على حدودها ومعابرها المائية والجوية، وصولاً لتصويت 52 بالمائة من البريطانيين في استفتاء جرى في يونيو/حزيران الماضي، لصالح “بريكسيت” وما يعنيه ذلك من خروج المملكة المتحدة من الاتحاد بشكل تام.

استراتيجية الوقاية
شرعت بريطانيا منذ عام 2011 بتطبيق “استراتيجية الوقاية”، كجزء من الخطة الشاملة لمكافحة الإرهاب. وتقوم استراتيجية الوقاية الأمنية على أربع دعائم: المتابعة لوقف الهجمات الإرهابية؛ منع الناس من الانضمام للمنظمات الإرهابية أو المنظمات المتطرفة، بما فيها منظمات اليمين المتطرف؛ تعزيز إجراءات الحماية ضد الهجمات الإرهابية؛ معالجة أثار أي هجوم إرهابي في حال وقوعه بشكل سلس وهادئ.

وتم دمج “استراتيجية الوقاية” في المقررات الدراسية من خلال تشجيع التلاميذ على استكشاف الثقافات والديانات الأخرى، وتعزيز التنوع، ورفض التحيزات المتعصبة والعنصرية، وتنمية مهارات التفكير الإيجابية، وتعزيز التنمية الروحية والأخلاقية والاجتماعية والثقافية للتلاميذ، فضلاً عن تعزيز القيم البريطانية مثل الديمقراطية.

التجربة الإيرلندية
اكتسبت الأجهزة الأمنية البريطانية منذ سبعينيات القرن الماضي، خبرة واسعة في مواجهة التنظيمات السرية. وخاضت مواجهات مفتوحة وأخرى سريّة مريرة مع الجيش الجمهوري الإيرلندي، وغيره من التنظيمات الراديكالية التي كانت تطالب بانفصال إيرلندا الشمالية عن المملكة المتحدة. وقد وفرت “التجربة الإيرلندية” لأجهزة الأمن البريطانية خبرة قل نظيرها بين الدول الأوروبية. واكتسبت عبرها معرفة تكتيكات الجماعات الإرهابية، والتنظيمات السرية، وهي المعرفة التي لا تزال حاضرة في متابعة السلطات البريطانية للأشكال الجديدة من المجموعات الإرهابية والمتطرفة.


بريطانيا سبّاقة عالمياً في استخدام كاميرات المراقبة المغلقة لحماية مدنها


مجتمع “جيمس بوند”
تعبر شخصية الجاسوس البريطاني “جيمس بوند” عن حال المجتمع البريطاني ككل، عندما يتعلق الأمر بـ”المراقبة” أو “التلصص”. ولا يعتبر سلوك التلصص “المدني” مُعيباً في بريطانيا. كما “لا يموت هماً” من يراقب الناس في بريطانيا، إذ إن المراقبة جزء من واجبات المواطن الإيجابي حسب مفهوم “نظام مراقبة الأحياء” الذي استحدثته البلديات منذ عام 1982. ويقوم نظام مراقبة الأحياء على مشاركة الشرطة وإدارة السلامة المجتمعية في وزارة المجتمعات المحلية، ومنظمات محلية تطوعية، بالإضافة إلى متطوعين من الأفراد والعائلات، بهدف تنسيق أنشطة المراقبة والمتابعة في الأحياء عبر تنبيه الشرطة وإخبارها عن كل نشاط مُريب أو مشبوه. وتتشكل لجان مراقبة الأحياء بشكل منظم وترتيب هرمي يشمل منسقاً للمراقبة في الحي، ثم منسقاً للمراقبة في المنطقة. وتتولى مجالس محلية التنسيق بشكل دوري مع الشرطة المحلية. وإلى جانب شبكات مراقبة الأحياء، شكلت وزارة الداخلية عام 2007، شبكات “مراقبة الجوار وحراسة المنازل”، لمكافحة مختلف التشكيلات الإجرامية والإرهابية التي قد تتخذ من الأحياء النائية أو المكتظة ملاذاً لأفرادها.

عيون الكاميرا
في صباح السابع من يوليو/تموز 2005، انفجرت ثلاث قنابل في ثلاثة من قطارات الأنفاق في العاصمة البريطانية. وانفجرت قنبلة رابعة في حافلة نقل عمومي. وقتل في هذه الاعتداءات 52 شخصاً. وخلال وقت قصير، استطاعت أجهزة الأمن تحديد هوية الانتحاريين الأربعة بالاعتماد على صور سجلتها كاميرات المراقبة الموضوعة في محطات القطارات وعلى متن الحافلة وغيرها من الكاميرات المنتشرة في معظم شوارع لندن وطرقها. وبعد أسبوعين من ذلك اليوم الدامي، فشلت محاولة أربعة إرهابيين آخرين لشن هجمات مماثلة على أهداف عمومية في لندن. وتمكنت أجهزة الأمن والشرطة من التعرف على المُشتبه بهم بالاستعانة بصور الدوائر التلفزيونية المغلقة التي تعقبت الإرهابين حتى بعد هروبهم بعيداً عن المواقع المُستهدفة.

وكانت بريطانيا سبّاقة عالمياً في استخدام كاميرات المراقبة المغلقة لحماية مدنها من العمليات الإرهابية، لا سيما خلال المواجهة مع الجيش الجمهوري الإيرلندي الذي نفذ في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي الكثير من العمليات الإرهابية في المدن البريطانية. إلا أن اعتداءات 2005 في لندن، دفعت الجهات الأمنية البريطانية إلى مضاعفة عدد كاميرات المراقبة في العاصمة وغيرها من المدن. وبات البعض يصف بريطانيا بـ”غابة كاميرات المراقبة” بعدما كشفت بيانات الشرطة أن كل شخص يمشي في شوارع بريطانيا يخضع لرصد كاميرات المراقبة التي تعمل بنظام الدوائر التلفزيونية المغلقة، بمعدل 70 مرة في اليوم. ولا ريب في أن وتيرة المراقبة ترتفع كلما ارتفعت درجة الخطر من تعرض بريطانيا لهجمات إرهابية شبيهة بتلك التي ضربت بروكسل وباريس وبرلين وبالعمليات الإرهابية التي ضربت العاصمة البريطانية في 7 يوليو 2005. وتشير مصادر غير حكومية إلى وجود 4.2 ملايين كاميرا للمراقبة، تعمل بنظام الدائرة المغلقة في بريطانيا، أي ما يعادل كاميرا واحدة لكل 14 شخصاً من سكانها البالغ عددهم نحو 61 مليون نسمة. وحسب أرقام نشرتها صحيفة “ديلي ميل” البريطانية، أخيراً، فإن المملكة المتحدة تملك 20 بالمائة من مجموع كاميرات المراقبة في العالم. وفي مقابل هذه الأرقام تعترف الشرطة البريطانية بنحو 1.85 مليون كاميرا مراقبة ترصد على مدار الساعة الحركة في شبكة مترو الأنفاق والقطارات وشبكة الحافلات وفي الشوارع والمحلات التجارية ومواقف السيارات وحول المباني العامة والأحياء السكنية.

العربي الجديد