رأي ومقالات

قصة الشجرة الكبيرة

عشرة أعوام خلت قضيتها في الغربة بين وهج الشمس ولهيبها الحارق أواصل الليل بالنهار في عمل مضن. لم يكن لي هم أكبر من أن أجمع مبلغاً من المال يمكِّنني من بناء منزل يلم شمل أسرتي المشرّدة، وتشرّدت أنا من أجل ذلك سنيناً، لاقيت فيها ما لاقيت من الأهوال والشدائد، تنازلت في سبيل ذلك عن الكثير من المبادئ والقيم، وكلما تذكرت تلك العشة الحقيرة التي لا تقي من حر ولا برد ولا مطر، ووجه والدي وهو يبيع الماء المثلّج تحت ظلال تلك الشجرة الكبيـرة، بينما أمي تبيع القهوة والشاي، امتلأت عيناي بالدموع وزادني ذلك حماساً للعمل.
لعلني رسمت عشرات الخطط في رأسي وعلى الورق لهيكل ذلك المنزل المرتقب وتخيلت أجنحة السعادة وهي ترفرف على ذلك البيت السعيد، وتمنيت لو أن الزمان ومضة وانقضى حتى أعود للوطن لأحقق ذلك الحلم النبيل. وتذكرت نعيمة عندما جاءت لتودعني في تلك الليلة المظلمة. كانت تبكي بمرارة وكانت قلقة لفراقي، قالت لي وهي تمسح دمعة حارة على خدها الأيسر: كل الذين سافروا للخارج تبدّلوا وتنكّروا للبلد، “أوعى تتغير”. قلت لها: أنا لست من طينة الذين يتنكرون لبلدهم اطمئني يا نعيمة. ومكثت بعد ذلك في بلاد الغربة أكثر من عشر سنوات كانت مجموعة من الخواطر تزحم عقلي وأنا أحملق في الشوارع والمباني، أبصرت كل شيء حولي كما تركته: المطار، المباني، الطرق، الناس وحتى الأشجار كما هي وكأني بها كتاب مقفول تناثر على غلافه الغبار.
سألني سائق التاكسي عن وجهتي وهو يبدو سعيداً بصيده الثمين، قلت له وأنا أضم تلك الأوراق النقدية الملعونة: إلى الشجرة الكبيرة يا سيدي.. ولعلني لم أحدثكم سادتي عن هذه الشجرة العتيقة والعريقة والمتفرِّدة ومكانتها في نفوس الناس هناك، وهي شجرة ضخمة من النيم تمثل نقطة التقاء للكثير من أبناء البلد، ويضربون عندها المواعيد، ويأكلون ويشربون ويرشفون القهوة والشاي وهم يقرضون الشعر، وأما بالنسبة لي أنا فهي تعني الكثير.
لم يلفت نظري أدنى شيء وسيارة التاكسي تقطع شوارع المدينة إلا بعض الصفوف المتراصة هنا وهناك، وعندما سألت صاحبنا عنها أجابني بنبرة حادة وبقسوة شديدة: “يا أخي أصلك أنت عايش وين” هذه صفوف الخبز، وتلك صفوف البنزين، فلذت بالصمت، ولم أنبث ببنت شفة بعد ذلك.. وفجأة توقف صاحبنا تماماً بين مجموعة من البنايات الضخمة وقرأت على حيطانها عدداً من اللوحات التي تحمل أسماء لبنوك وشركات تجارية، وهنا وفي هذا المكان فتح صاحبنا باب السيارة قائلاً: الحمد لله على سلامة الوصول، قلت له مندهشاً ما حاجتي لهذا المبنى التجاري يا أخي، قلت لك أريد الشجرة الكبيرة، قال وهو يتفحصني ببرود: هذه هي الشجرة الكبيرة. قلت له وأنا أتفرس بما حولي: لا يا أخي أنت لم تفهم وجهتي، أنا أريد الشجرة الكبيرة: شجرة النيم والتي تحت ظلالها يتجمع الناس، ويباع الماء المثلّج، والقهوة والشاي و… وضحك صاحبنا حتى شرق، ثم قال لي: أين كنت يا عزيزي ، وكم سنة مضت وأنت لم تر هذا البلد؟ إن كنت تريد الموقع فهذا هو يا صديقي، وإن كنت تريد الشجرة ذات الظلال والفروع والأغصان والأوراق فهذه قد قطعت … ومنذ خمس سنوات، وقامت مكانها هذه البنايات كما ترى، قطعت!؟ الشجرة قطعت!؟ وأين ذهب الناس الذين كانون يلجأون لظلها؟ أين أبي؟ أين أمي؟ أين أخوتي؟ يعني كل شيء قد تبدد، كل أحلامي ضاعت، الشجرة قطعت لماذا قطعت؟، لماذا كل شيء وجدته كما تركته لم يتغير؟ كل الأشجار واقفة لم تقطع إلا هذه الشجرة ماذا فعلت؟؟
أطـرقت قليلاً وفكّرت ملياً ولم أجد اختياراً أفضل من أن أعود من حيث أتيت ففعلت.

أحمد بطران

تعليق واحد