منوعات

ما بنختلف.. تفنّن خوجلي عثمان في أداء أغنيات الحقيبة بطريقته المتفرّدة التي تخصه وأطلقها عبر مايكرفون الإذاعة وكأنّها فُصّلت على صوته

من غُصنها بالغ الارتفاع، تدلّت إليّ قمرية. قبل نُزولها كانت تتقلّبُ في جمرات حُداءاتها بالغة القسوةِ، كثيرةُ الشجن. قالت لي:
– هل كنت تعلم بأنّ حداءاتنا لم تكن قاسية، وشجينة. بل كانت ضاجّةً بالحُبور والنشوة، قبل رحيل خوجلي عثمان غدراً؟
تركتني ممتلئاً بالسؤال أخو السؤال، وواصلت.
– منذ منادمتنا لمجالس أمير المؤمنين: هارون الرشيد، وفتياته الصادحات. وكذا مجالس الموصلي الكبير، وزرياب المغني، ووحيد، المغنية التي امتلكت مجامع السمع والقلب للكبير بن الرومي. منذ تلك المجالس، لم يهزنا ترنّمٍ ومُصادحة وتطريب، إلا في واحدة من حلقات برنامج (ساعة سمر)، أحد أشهر برامج الإذاعة التي كانت تتعهّد الأصوات الجديدة بالرعاية والتقديم لجمهور مستعمي إذاعة أم درمان، أيام مجدها الكبير الحصري، قبل أنْ تُنافسها الأثير إذاعات الإف إم. ساعة سمر كان يُقدّمه: عمر عثمان، الذي كان يُنقّب في الأصوات الموهوبة الجديدة. يومها استضاف فيه مُغنياً شاباً، لونه قمحي، وعيونه عسلية، وشعره مُخنفس، اسمه: خوجلي عثمان.
كان يتفنّن في تأدية أغنيات الحقيبة بطريقته المتفرّدة، التي تخصه. يُغني الأغنية، ويُكرّر الكوبليه مرةً إثر مرة، حتى تلين الأغنية بين يدي صوته، فيُطلقها عبر مايكرفون الإذاعة وكأنّها فُصّلت على صوته وأدائه.
وحِرنا يومها – والحديث للقُمرية- في الوسيم القسيم، البَسُوم المُخنفس، وهو يُمارس ذات القُوقاي الذي يخصنا، والتطريب الذي نفتنُ به الأسماع، ونجعلها أسيرةً لقيودنا. الغريب أنّ الوسيم خوجلي كان يُسمّيه غناءً.
ثم يزيدهُ طلاوةً، وجلاوة، ولوذعيةٍ، وتفنّن، وكثير رشاقة!!
مما أذكر يومها – والحديث للقمرية- أنّ خوجلي عثمان تغنى بالكثير من الأغنيات الجديدة الخاصة به، والمسموعة التي وصلتنا عبر حناجر ذهبية. اسمعنا خوجلي عثمان في تلك الحلقة الإذاعية:
اسمعنا مرة، القطار المرّ، المالك شعوري، زي بدر الهلال الهلّ، وغيرها الكثير الكثير. فامتلأتْ أشجار الإذاعة السودانية بالطرب، حتى تدلّتْ غصونها. وباجتماعات القماري، التي واصلتْ ما انقطع منذ هارون الرشيد، ويوسف الموصلي، وزرياب المغني، ووحيد المغنية التي فتنتْ بن الرومي!!
منذ تلك الحلقة الإذاعية؛ صارتْ مجالس خوجلي عثمان الطروبة، مكان حضورنا، وغاية مبتغانا، ما فوّتناها مرة، وفي كل مرةٍ نبلغ أقصى غايات الطرب والإمتاع والمؤانسة حتى نقول: بااااااع.
كنا حُضوراً وخوجلي عثمان يغني الدويتو تلو الدويتو، مع عرّابه: عثمان الشفيع. فيحتار الشفيع، إذْ كيف تآلفت أغنياته التي تخصّه مع أدائيات الفتى الطرّاب خوجلي، يسوسها رويداً رويداً، حتى تلين بين يدي صوته، ونقرشات عوده، وحُنجرته البهيّة!!
وكنا حضوراً، عندما صدح بالأغنية الزاهية المتسامحة: (ما بنختلف) للشاعر حسن الزبير، والتي تحوّلت إلى دمغةٍ مدفوعة العِشق، في خطابات المُولّهين، وعابري سبيل المحبة!!
وكنا حُضوراً عندما وقف خوجلي عثمان مع المطرب كمال ترباس، ببدلتيهما السوداوين، وهما يُغنيان أمام مايكٍ واحد: الأيام سجيّة للشاعر عوض جبريل. يصل كلاهما بالأغنية سُقوفات الطرب العليا!!
بل كُنّا حتى في حفله الخارجي الأخير بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا. والذي تجلى فيه كما لم يحدث من قبل، وسمعت فتيات الحبش يومها غناءً، لم يشهدنه إلا عند: أستير أويكي، وتلهون قسسا!!
كان غناء خوجلي عثمان مثل حُداءاتنا: ضاجاً بالحُبور وبالنشوة. ولذا عددناهُ قُمْرياً معنا. إلى أن حلّ علينا يومٌ أشأم، من أيام نوفمبر من سنة ١٩٩٤.
يوم أنْ غدرتْ بروحه السمحة الرفرافة، وهو بين رفاقه بدار وملتقى الفنانين، مُديةً غادرة، لشخصٍ قالت دفاتر الحكومة وسجلاّتها بأنّه مختل، ووقفتْ رؤوس الأسئلة والاستفسارات، ولم تقعد إلى الآن!!
منذُ تلك اللحظة – والحديث ما يزالُ للقمرية – تبدّلت حُداءاتنا بالشجن والشجوِ اليُقطّعُ النِياط!!
أيُّها النّاس، تذكّروا فناناً مُخنفساً اسمه: خوجلي عثمان، ببدلةٍ كُحليةٍ، وقميصٍ مشجّر.
كان عندما يقوقي:
تُثمر البرتقالات، ويفوح القرنفل، وتخْضرُّ المشاوير وتزدهي الأمسيات.
وكان عندما يقوقي:
يا روحي هاجري وفتّشي، أو زي بدر الهلال الهلّ. أو تحديداً: يعني كيفن ما بريدك، كان عندما يفعل كل ذلك، تلتقي كل الخطوط في النقطة (ب)، وتستحيلُ المواعيد إلى حقائق.
أيّها الناس، تذكّروا خوجلي عثمان، يرحمكم الله!!

اليوم التالي.

تعليق واحد