القاهرة والإمام
يقول السيد الشريف زين العابدين – عليه شآبيب الرحمة – في مناجاته للسودان: «زى ما موسي عدَّى ولا تعب لا حاجة»، ذلك استعمالٌ بليغ لكلمة “حاجة” في عاميَّتنا السُّودانيَّة، وهي عادة تأتي في سياقاتنا الدَّراجة فتضعف الكلام بإضافتها الفارغة، ذلك قبل أن يُورط بها الكاتبون في أيامنا هذه فيجعلونها “حوجة”، يضيفون الخطأ المُنكر إلى الركاكة.
ذلك شعورٌ جميل، أن تُفتحَ لك الأبواب، أو أن تنفتح لك تلقاءً، فتدخل بلاداً بلا تعب “لا حاجة”، ولا تحقيق ولا أسئلة، ودون انتظارٍ ومن غير لجاجة أو مَطَل. أو كما هو شعور السُّودانيين ممَّن يلجون مداخل مصر آمنين، عبر مطاراتها وحُدُودها ومعابرها، فتنفتح لهُم هاشةً باشةً، إلا مِن مواسم عابرة تعتلج فيها السياسة وتعك، ثمَّ ما تلبث سحابة صيف عن قليلٍ تقشع. وإذ انقسم الناس قديماً حول مصر، مَن تعلق قلبه بها ومَن أنكرها، فقد اتحد رأي السُّودانيين حول مصر أو كاد. يقول سير روبرت آخر حاكم عام بريطاني أسلم السُّودان مُستقلاً إلى النخبة الوطنيَّة في مذكراته: «يحتم عليَّ الوصول إلى محل عملي في السُّودان المرور على القاهرة، وقد أنكرها قلبي أوَّل موطئ لها وظلَّ مُنكراً لها إلى آخر مرَّة زُرتُها فيها عائداً إلى بلادي، وما أزال محتاراً في الشغف الواله الذي ظللتُ أسمعه من الإداريين البريطانيين بالقاهرة، وما قرأت مثله وأكثر لدى المستشرقين من العلماء والشعراء». وفي المقابل، يقول قارئ الاستشراق الأكبر إدوارد سعيد بعد تطوافه الواسع العميق في العالم، وهو ينظر إليه من “خارج المكان” في مذكراته التي حملت ذات العنوان: «لن تجد كيلومتر واحد في أيِّما مكانٍ في العالم يحمل الثراء الذي يحمله كيلومتر في القاهرة».
بين رمضان والعيدين، دخل القاهرة ملايين السودانيين براً وبحراً وجواً على كل ضامر نفطي أو مهري، كما ظلوا يدخلون منذ بدء التاريخ، وقد كلت أيدي الموظفين في القنصليَّة المصريَّة بالخرطوم من صوت الأختام المكتوم وما كلت أرجُل السُّودانيين في حَجِّهم الدائم للعلاج والعلم والثقافة والسياحة، لكُلٍ وجهة هو موليها، ولكن ذلك الهدير ما لبث أن صمَّ فجأةً عندما انغلقت أبواب مطار القاهرة أمام دخول “الإمام”. تقديرات الدول غير تقديرات الشُعُوب والمجتمعات، وربَّما تأتى قراراتها صادمةً صافعةً ذلك أنها، أو أنَّ المفترض فيها، أنها تُحسَب وتُقرَّر بعقلٍ باردٍ يُقدِّر المصالح ويمنع العواطف، فالإدارات المصريَّة المتعاقبة على ملف السُّودان راكمت خبرةً هائلة حول طبيعة العلاقات المصريَّة السودانيَّة، كما أنها كابدت مواقف كثيفة منذ أن كان البلدان بلداً واحداً، ولحين فجر الاستقلال وعند ضحى الحكومات الوطنيَّة المتعاقبة وإلى حين عشيَّة الإنقاذ. وبين التاريخ والخبرة والمصلحة وعبر النهر الجاري مئات الأميال، وبحساب السياسة والإستراتيجيَّة، وبتقديرات الاقتصاد والاجتماع، وبعقل المُؤسسات المحض تجئ المواقف والقرارات، وبما أنَّ السُّودان ومصر كلاهما – مع الفارق الكبير – يعيشان الظروف التاريخيَّة النفسيَّة التي تعتور دول العالم النامي، تتوالى الأخطاء وتتعدَّد حتى عند تلك المُؤسسات التي أبدعتها الدولة الحديثة وقدَّستها، بأسبابٍ من المصالح كما أسلفنا أو عندما يفرض المُؤقت والتكتيكي نفسه على الثابت الإستراتيجي، وأحياناً قليلة بظروف تبدل الإدارات وتعاقب الشخصيات، فرغم الانفتاح المصري السوداني الكبير المتصل، ظلت سعة العمل السياسي وحتى الثقافي تتسع وتنكسف بظروف السياسات وصروف العلاقات بين الأنظمة، فإلى حين توقيع “اتفاق القاهرة” (2005)، ظلت القاهرة عاصمة المعارضة للحكومة في الخرطوم، تبسط سوحها بلا حدود للنشاط السياسي، لكن تتحفظ إلى حدِّ الكف عن أيِّما عملٍ عسكري ينطلق منها أو ينشط فيها، إلا من مواسم محدودة فحش فيها العداء وانباحت فيها المحظورات.
قرار منع “الإمام” من دخول القاهرة – في تقديري – يتردَّد بين إباحة الإقامة والنشاط السياسي وبين شُبهة رئاسة “الإمام” لتكوينٍ يضُمُّ فصائل ذات عمل عسكري، ففي حجاج القاهرة والخرطوم المتصل وضمن ثوابت السياسة المصريَّة الرَّاهنة التي تحظر وتحذر كل امتدادٍ لعمل جماعة الإخوان المُسلمين، كانت القاهرة تشتبه في وجود جيوب منهم في الخُرطوم، وكانت الخُرطوم تشتكي في المقابل من وجود المعارضة في القاهرة، وربَّما تُذكرُ عرضاً رئاسة “الإمام” لجماعة “نداء السودان” في دورته الرَّاهنة. ورغم أن رحلة ألمانيا التي جاءت حالة المنع في أعقابها كانت محدَّدة بنقاش المُشاركة في انتخابات ٢٠٢٠ في السُّودان، وهو هدفٌ عزيز تسعى له الخُرطوم، وأن خلاصة الاجتماعات ربَّما حملت مكاسب للحكومة وتنازُلاً من المعارضة، فإنَّ للإمام الصادق المهدي كذلك ثوابته التي قرَّ عليها بعد رحلة طويلة في السياسة والعمل العام.. ألا يساوم في استقلال قراره وطلاقة عمله وحركته، وكما حسم تردُّده إزاء مبادرة الدكتور كامل إدريس بترتيب لقاءٍ يجمعه مع الشيخ حسن الترابي في العام 1999 وقرَّر من فوره الذهاب إلى جنيف بعد طلب اللواء عُمَر سليمان رئيس المُخابرات العامَّة المصريَّة يومئذٍ منه ألا يفعل، قرَّر سفره إلى ألمانيا رغم طلب المسئولين المصريين منه ألا يفعل.
لابُدَّ هنا من وقفة إجلال وتقدير لأسماء قليلة مجيدة من النُخبة المصريَّة، عرفت السُّودان وعشقته، وسارت بالعدل ردحاً طويلاً بين حكومته ومعارضته، رغم وعورة ذلك المسار المُفعم بالألغام وصعوبة شقه، فاكتسبت من ذلك الحمام خبرة عميقة بالسُّودان وعلاقات ممتدَّة بالسُّودانيين، على رأسهم الأستاذ هاني رسلان والدكتورة أماني الطويل والأستاذة أسماء الحسيني، الذين جاهروا وكتبوا بصراحة حول رفضهم لقرار منع الإمام من دخول مصر، وأنها تضر بالعمق الإستراتيجي لثوابت السياسة المصريَّة، وقد تسئ لمُستقبل العلاقة مع السُّودان، فغير شجاعتهم، فتحوا باباً للأمل في مراجعة القرار، ووجدوا تجاوباً طيباً من حزب الأمَّة يُؤكد أنهم لا يرون في قرار سياسي نهايةً للتاريخ.
فـ“الإمام” طويل العهد بالقاهرة، نسمع منذ يفاعتنا الأولى أنَّ السيد الصَّادق المهدي والأستاذ عبدالخالق محجوب قد نُفيا إلى مصر، ولعلها أوَّل مرَّة نسمع كلمة المنفى مطلع العقد السبعين، قبل أن يتواطأ وردي والتيجاني سعيد في الشدو المُشترك، فيُصبح المنفى من مفردات الشجن والجمال في السُّودان، ويصبح منفى “الإمام” أوَّل شبابه الغض، وطناً مختاراً في شيخوخته، يُجسِّر هُوَّةً مفتعلة بين مصر والسُّودان، أو بين تراث المهديَّة الذي حمله كيان الأنصار وحزب الأمَّة مع ماضي مصر العثمانيَّة، ولما يزل كوامن من ذلك الماضي تنفجَّر فجأة هُنا أو هنالك بصروف السياسة، بل حيثما تردَّدت خُطى “الإمام” بين حالة المُفكر ومواقف السياسي، مع تقديرٍ تام لتقديرات أيَّاً منهما – النظام أو “الإمام” – أو لمبادئهما التي لا تغيِّرها المواقف.
في لقاءنا الأخير مع السيد “الإمام” في الشهر المبارك رمضان المُنصرم، والذي حملت بعض حيثياته يراعة الدكتور الواثق كمير البارعة، بادأنا “الإمام” بسؤال عن رُؤانا لحال السُّودان، بوصفنا من حَمَلة الفكر وفق مقولته وظنه المُقدَّر بإجلالٍ عندنا. كانت رُؤيتنا كلانا أن تتوجَّه المعارضة لتقوية اللحمة مع جماهيرها ثمَّ مع بعضها بعضاً، ليس فقط لمصارعة النظام والحُكم، ولكن لأنَّ السُّودان اليوم تترقرق فيه الركائز وفقاً لمقولة قديمة لعلي المك، وتتكاثر فيه الزعازع وتتناقص الأوتاد وفقاً لمقولة الدكتور منصور خالد القريبة. وفي حالة البحث المُلِحِّ لما يجمع السُّودان وينظمه في عمودٍ فقري لازمٍ لكُلِّ أمَّة تتطلع شُعُوبها أن تبقى مُوحَّدةً محفوظةً من الزوال، يحتاج “الإمام” أن يكون قريباً لجماهيره، قبلةٌ لهم طوَّافون عليها، أو هُو طائفٌ عليهم مهما عثروا عليه الحركة، أو اشتدَّ عليه المُكر كما اشتدَّ على الأنبياء ليثبتوك أو يقتلوك. ردَّ “الإمام” بإنجليزيَّة فصيحة: «ذلك أمر نأخذه بحقه، يعني حقه من النظر والتفكير».
مقولاتنا هذه ورأينا إنما هي وجهة نظر عنت لنا بعد تفكيرٍ موصول ومكابدة متصلة لأحوال السياسة السودانيَّة، تقصد أن تلج لجوهر القضايا، لا تقف لدى عالم الأشخاص ولا ترهن نفسها إلى الماضي ولا تتورَّط في كراهيَّة عمياء لنظامٍ أو جماعة، فالأمر أكبر بكثير ممَّا يتوهَّم المُوسْوِسُون المهووسون بعالم الأشياء دون عالم الأفكار، فالأفكار فرائد نفيسة، والأشخاص فانون مهما أغرت سيرهم النخب التي تلامسهم بالمديح أو الهجاء أو الاغتياب. فـ“الإمام” في وجهة نظر مُقدَّرة، المنافي أقرب إليه من الوطن في لحظتنا هذه من زماننا هذا بين يدي حُكومة اليوم، والحفاظ على شخصه ورمزه أجلُّ من مغامرة التوجُّه اليوم إلى جماهيره في السُّودان، حتى يقضى الله أمراً كان مفعولاً، والحق أنَّ وجهة النظر التي تخالفنا مُقدَّرة لأنها تقصد معنا لذات الهدف في استثمار ما تبقى من ركائز والمحافظة عليه. كما هو قرار بعض الأحزاب المعارضة بخوض غمار الانتخابات المُقبلة فيما أسموه منازلة النظام في معركة ٢٠٢٠، يتفق مع بعض تقديراتنا التي تؤكد أن الاعتزال والمنفى مواقف مجرَّبة طيلة ثلاثة عقود، كما أنَّ المقاومة الحقة وبوسائلها كافة كذلك مختبرة، والنتيجة بالطبع ليست صفراً، ولكنها مع تكاليفها الباهظة لم تحقق هدفها بزوال النظام أو تبدُّله ليوافي بعض أهداف المعارضة الجوهريَّة، أو يُسلِّم ببعض أجندة المُجتمع الدولي المتواترة منذ يوم الإنقاذ الأول وإلى اليوم، بل ساهم جميعاً في الحالة التي حملتنا اليوم على الإشفاق على ذات سلامة كيان الوطن.
لا ريب أنَّ الإقليم الأفريقي من حولنا يشهد عافية جديدة في دورةٍ جديدة للحياة، وإذ كان السُّودان هو الأنموذج الأسرع الأسبق في دورات التعافي من كُلِّ جواره العربي وجواره الأفريقي، فقد أحاطت الأزمة هذه المرَّة واستطالت، ممَّا يقتضى تفكيراً أعمق وحلاً جديداً، فقد هرعنا إلى استقلالنا سريع السريع في قول صلاح أحمد إبراهيم، منذ عام ١٩٥٣ والسُّودان مستقلٌ يتهيَّأ مدى الأعوام الثلاث ليرفع علمه في احتفالٍ بهيج، لا علاقة بين ذلك وبين ما حدث في غانا أو الجزائر من حُرُوب التحرير المُضنية المُوشاة بدماء ملايين الشهداء، ثمَّ ما لبثنا أن أخذنا لقاحانا من حُكم العسكر فثرنا عليهم بعد ست سنوات، ثمَّ مع أكتوبر ١٩٦٤ وعلى “مائدة مستديرة” وضعت معالم مرضية لحلٍ سياسي ودستوري لمشكلة الجنوب، قبل أن يمضيها النميري في أديس أبابا 1972 ثمَّ لنثور على النميري نفسه ونجعله تاريخاً في انتفاضة سلميَّة بعد ستة عشر عاماً من حُكمه، والصوماليون ينظرون إلينا في غبطة وغيرة كيف تفعلونها كل مرَّة وسيَّاد برِّي يجثم على أنفاسنا منذ عشرين عاماً؟! كنا نفعل كما يفعل اليوم أسياسي أفورقي وآبي أحمد وبأفضل مما سلفا كير ورياك مشار، فهل تفكر الخُرطوم تفكيراً جديداً وهل تخرُج المعارضة من ضيق المنافي إلى سعة الوطن؟! هل تبسط الخُرطوم بساطاً أحمراً لـ“الإمام” يعبُره ليُصلي العيد المُقبل بين جماهيره في قبَّة البُقعة؟!
حالنا مع جوارنا اليوم كما وصف محمد المكي إبراهيم قُبَيْلَ توقيع اتفاقية أديس أبابا:
قبل أن تمتطي صهوة الريح غانا
ويُسمعُ صوت المُعلم في زنزبار
وعلى حين راح العراق يُؤمِّم بتروله
والجزائر تجمع قبضتها الدامية
ثمَّ تهوي بها في رُؤُوس العساكر والغاصبين
نمشي إلى الخلف في حين يعدون عدواً
كتب : المحبوب عبد السلام
سودان تربيون.