دموع مالحة من عيون أطفال تبحث عن (لقمة)… (وجبة الفطور) بالمدارس الهم الأكبر للمعلمين والأسر التي نال منها الفقر..!!
داخل عدد من المدارس بأم درمان تجسدت معاناة الأطفال الذين حرم البعض منهم من تناول وجبة الأفطار كما جاء على لسانهم ومعلميهم، تتعدد الأسباب والجوع ينهش بطون أطفال لا ذنب لهم سوى ظروف قاسية تمر بها البلاد أجبرت أسرهم على تسريحهم للمدارس وحقائبهم وبطونهم تشكو قهر الظروف، قصص وحكاوي تسلب ماء العين من داخل المدارس التي ظلت إدارتها تعمل على سد رمق الأطفال الذين تعاني أسرهم من ضيق ذات اليد وعجزوا عن توفير الوجبة بأبسط مكوناتها وظل الجوع يطحنهم ويجبرهم على أن يقطعوا يومهم الدراسي.
(1)
حرصت على زيارة بعض المدارس في توقيت استراحة الإفطار لأقف على مدى المعاناة التي يعيشها التلاميذ ومن داخل إحدى المدارس بمنطقة أبوسعد بأم درمان رفض مديرها الإفصاح عن ذكر اسمه لكنه لم يمانع من الاستماع إلى الطلاب وهم يكشفوا عن مدى معاناتهم في الحصول على وجبة الإفطار التي يشدد عليها الأطباء مؤكدين أنها الوجبة الأهم، (ر، س) يدرس الصف الثاني ظل أقرانه من حوله يلهون هنا وهناك إلا هو الذي آثر أن يجلس بعيداً عنهم، اقتربت منه وجلست إلى جواره أرضاً أسأله عن الدراسة وعن أشقائه وأخذته بالحديث بعيداً، من ثم سألته عن ماذا تناول في الإفطار خفض رأسه أرضاً وهنا اعتصرني الألم كأنني أخطأت السؤال مسحت على رأسه وواصلت الحديث قائلة (أرح البوفيه نفطر مع بعض ونكون أصحاب)، رفض بشدة قائلاً: (منتظر أمي ح تجيب لي الفطور). ودار بيننا الحوار الآتي:
بس الوقت مشى والفسحة ح تنتهي؟
لو ماجاءت ما مشكلة.
كيف ما مشكلة تواصل اليوم بدون أكل؟
مرات كتيرة أنا أصلاً بنتظر أمي تجيب لي كسرة بي ملاح بعد تعملها في البيت.
لم أحاول الخوض كثيراً لكن كنت أصر عليه بالذهاب للبوفيه ويصر هو بالرفض غادرته، وفي القلب وجعة لن تنتهي، وفي العين ألف دمعة.
لم تنتهِ الجولة ولم تقف المأساة عند الصغير السابق بل واصلت جولتي بين الأطفال الذين كان أغلبهم منهمكاً باللعب. استوقفني ثلاثة بدا لي أنهم على صلة قرابة من الشبه الذي بينهم لم يخب ظني فكانوا الثلاثة أشقاء أكبرهم يدرس بالصف السابع وأوسطهم بالخامس وصغيرهم بالثاني، وهم يلتفوا حول وجبة اندومي وضعت داخل (صحن بلاستيك صغير تمت استعارته من صاحب البوفيه) جلست بجوارهم من ثم ألقيت السلام.. رد أكبرهم وعزم علي أن أتناول معهم الإفطار اعتذرت بأنني سبقتهم ووجدت مدخلي عند وجبة الأندومي، وكيف أنها مضرة ويجب عليهم الإقلاع عنها وليتني لم أحدث. توقف (خ، م) الشقيق الأكبر عن الأكل وجاء إلى جواري متحدثاً بشكل فاجأني، فالفتى لبق يجيد الحوار تحدث إلى هامساً (ظروفنا ما بتسمح بأكتر من الأندومي أبوي عامل بسيط وأمي تعمل فراشة بأحد المستشفيات لذا أتقاسم وأشقائي تلك الوجبة بصورة يومية) لم أجد ما أعقب به فقط تمنيت لهم التوفيق.
(2)
غادرت إلى مدرسة أخرى والدعوات تحف أولئك الطلاب من كل جانب، هنا اختلف الوضع كثيراً إذ أكدت مديرة مدرسة أم المؤمنين بنات آسيا إسماعيل موسى بأبوسعد مربع 5 أن المدرسة بها جمعية تسمى أم المؤمنين الخيرية تحرص على كفالة الأطفال الفقراء والأيتام وتوفير وجبة الفطور الخاصة بهم بالإضافة إلى حالات الطوارئ الأخرى مثلاً أن تنسى تلميذة إفطارها أو أن تسرق نقودها التي تأتي بها قائلة إن حالات السرقة والإفطار شيء لا يذكر ولا يحدث إلا داخل الفصول الصغيرة باعتبار أنهم أطفال غير مكتملي النضج مشيرة إلى أنها تتلقى دعماً خيرياً من أصحاب الخير دون أن يذكروا أسماءهم وأن المدرسة تتكفل بإفطار خمسين طالبة يومياً وعن مشكلة الخبز لفتت إلى أنها خاطبت إدارة المخبز المجاور للمدرسة والذي تعهد بتوفير الكمية المطلوبة يومياً.
وأكدت الطالبات اللائي يدرسن بأم المؤمنين أن روح التكافل موجودة بالمدرسة وأن الإدارة لا تترك طالبة دون أن تتناول وجبة الإفطار. أضف إلى ذلك حالة الود والمحبة الموجودة بينهن والتي يعود الفضل فيها إلى الإدارة الرشيدة التي تدير المدرسة.
(3)
مرة أخرى تعاود المآسي وتطل برأسها داخل مدرسة بذات المربع بأبوسعد أحد الطلاب لفت إلى أن والدته تقوم بإعداد ما تبقى من وجبة غداء البارحة أياً كانت ليحملها ويأتي بها إلى المدرسة مشيراً إلى أنه غير متأزم من هذا الأمر بل يعمل على مشاركة زملائه وجبة الفطور ويشاركهم (فتة الفطور الجماعي) ولم يحدث أن رفضوا ما يحمل رغم أنه يأتي كثيراً بـ(ملاح وكسرة أو كسرة بي سكر) .
حالة أخرى لطالب بالصف الرابع قال عنه زملاؤه إنه يظل طوال اليوم دون أكل ولا يسمح لأحد أن يجود عليه بشيءٍ لأن والدته أخبرته بضرورة أن لا يعرف أحد شيئاً عن عدم تناوله الإفطار حتى أنه سقط يوماً مغشياً عليه وحينما أخبروا المدير بالسبب أصبح حريصاً على إفطاره يومياً قبل كل الطلاب.
قصص الأطفال عن وجباتهم شيء لا يصدق أحدهم حدثني قائلاً إنه وعدد من زملائه يحرصون على شراء (التبلدي بالشطة والأندومي من الحاجات المتواجدات خارج سور المدرسة) كوجبة رئيسية يومياً وعند عودته للمنزل يتناول وجبة الغداء مع بقية أسرته.
أما (س، ا) طالب الصف السادس فأشار إلى أن المدرسة تتكفل بوجبة الفطور وكثيراً ما يصوم عليها إلى اليوم الثاني كاشفاً عن أن والده متوفي وأن والدته تعوله وخمسة من أشقائه بالمراحل المختلفة، وأنها تعمل على بيع الكسرة.
(التنحل) شفرة معروفة فقط بين الطلاب وتعني أن تمنح زميلك شيئاً مما تحمل من إفطارك هكذا روى لي الطالب سعيد الذي قام بتلحينها المتعارف بينهم مضيفاً (الما بنحل بنعتبروا بخيل وما بنتعامل معاهو تاني).
(4)
ولم يترك مدير مدرسة المعارف النموذجية بنين بالمهندسين مربع 29 قاسم أحمد الرشيد مجالاً لأن يطول الجوع صغاره بالمدرسة الذين يعتبرهم أبناءه حسب تعبيره لافتاً إلى أنه لصيق بهم كأب أكثر من كونه مديراً مشيراً إلى حرصه على الوقوف بنفسه بالبوفيه الخاص بالمدرسة وتنظيم الصفوف عند استراحة الفطور متفقداً من لم يأتي بإفطار ومن لا يحمل نقوداً ولا يتناول إفطاره إلا بعد الظهر بعد أن يطمئن عليهم جميعاً، قائلا : لدينا بالمدرسة كشك صغير يباع به الإفطار الخاص بتلاميذ الصف الأول والثاني والثالث الذين أحرص على توفير كل احتياجاتهم وأن يتم إخراجهم للفطور قبل زملائهم بالفصول الأخرى، قبل عشر دقائق، أما البوفيه الآخر فهو خاص بالفصول الكبيرة وتباع بداخله وجبات بأسعار رمزية سندوتش الطعمية 5 جنيهات، الفطيرة باللحمة المفرومة تتفاوت ما بين 8 إلى 10 وأعطي العامل بالوفيه تعليمات تتمثل في نظافة الأكل قائلاً إنه لا إشكالية لديهم بالخبز فجد أحد الطلاب صاحب مخبز وفر لهم الكمية التي يحتاجون إليها بالإضافة إلى جاره بالحي هو الآخر صاحب مخبز مشيراً إلى أن حاجة المدرسة للخبز لا تفوت الـ700 رغيفة لأن الأغلبية تأتي بالفطور من المنزل لافتاً إلى أن العدد الكلي للطلاب يبلغ 1291 تلميذاً موجهاً صوت شكر لرجال الخير الذين يأتون للمدرسة بالزي والأدوات المكتبية بالإضافة للوجبات في كثير من الأحيان.
جولة: تفاؤل العامري
صحيفة السوداني.