رأي ومقالات

د.عبداللطيف البوني: من الثورة للدولة

(1) تُعتبر الثورة المهدية من أعظم ثورات القرن التاسع عشر بمقاييس الأيديولوجيا وبمقاييس التّحرُّر الوطني, نعم الإمام المهدي كَانَ إسلامياً أممياً في ثورته، ولم ترد كلمة الوطن أو السودان في أيِّ منشورٍ من منشوراته، ولكن مُجرّد الثورة على أجنبي تُعتبر تَحرُّراً ذاتياً، وفيما بعد نَتَجَ عنه تَحرُّر وطنيٌّ حتى ولو كان غير مقصودٍ، هذه هي الثورة المهدية.. أمّا الدولة المهدية فقد جاءت مُتخلِّفةً عن الثورة كثيراً ولن نكون مُتجنيين عليها إذا قلنا إنّها دولة فاشلة ليس بمقاييس دولة اليوم، إنّما بمقاييس دولة ذلك الوقت وهذه قصةٌ أُخرى، ولَعَلّ من أهم أسباب فشل الدولة المهدية هو أنّها دخلت على الدولة بِرُوح الثورة، بمعنى أنّه عندما سَقَطَت دولة الأتراك وأصبحت الخرطوم تحت إمرة المهدية لم يلتفتوا لبناء الدولة، إنّما أصرُّوا على مُواصلة الثورة فكانت غزوات الحبشة ومصر التي دمّرت الثورة، ويكفي هنا الرد على ملك الحبشة عندما حاول لفت نظر حكام المهدية إلى المُخَطّط الأوروبي تجاه أفريقيا.
(2)
ونحن نتفيأ هذه الأيام ظلال ثورة “ديسمبر – أبريل” المجيدة، ليتنا نأخذ العِبَر من الثورة المهدية المُباركة، فاستمرار الحَالة الثّورية وتَطَاوُلها ليس في مَصلحة الثورة أو الدولة.
خِلال شُهور الثورة الطَويلة مرّت العديد من السوانح التي يُمكن القفز بها من الثورة إلى الدولة، ولكن كان هُنَاكَ إصْرَارٌ من قيادات الثورة للحُصُول على أكبر قَدْرٍ من المكاسب الثورية, علماً بأنّ إهمال جانب الدولة قد يُؤثِّر سَلباً في مسيرة الثورة والأهم أنّ الوثوب على سرج الدولة سوف يُساعد كثيراً في إنجاز مهام الثورة، ولكن البعض يُريدها شَرعيةً ثوريةً بدلاً من شرعية قانونية.
لا أحدٌ يَستطيع التقليل من عظمة وأهمية الثّورة وما تولِّده من أحاسيس ومشاعر رافضة للظُّلم ومُتَوَثِّبة نحو المثل العُليا، ولكن عندما يتم الحَـد المَعقُـول من التّغيير ينبغي أن يتّجه النّاس نحو البناء والتقدُّم والرفاهية، إذ لا يُمكن للإنسان أن يعيش الحالة الثورية إلى أبد الآبدين.. الثورة تتحرّك بالانفعال الذي مَكانه الوجدان.. أمّا الدولة فتبنى بالتّدبُّر الذي مَكانه العَقل.. الثورة بالضرورة أن تَكُون حالة مُؤقّتة واستثنائية.. بينما الدّولة يجب أن تكون في حالة ديمومة لا بل تبنى على التّأبيد.. باختصار كدا الثورة وسيلة.. بينما الدولة يُمكن أن تكون غاية وأيِّ مُحاولة لجعل الثورة حالة دائمة تعني قتلها..!
(3)
أيِّ ثورة في الدنيا لا بُدّ لها من شرطٍ ذاتي ويتمثل ذلك في القيادة، وأيِّ ثورة بدون قيادة تَعني الفَوضَى، وقيادة الثورة لا بُدّ أن تكون صادقةً وقادرةً على مُخاطبة العقول والمشاعر بدواعي الثورة، فالناس لن تنقاد إلا لقيادة مُقنعةٍ، ولكن قيادة الثورة ليس بالضرورة أن تكون هي قيادة الدولة، فقيادة الدولة مُتطلباتها غير مُتطلبات قيادة الثورة، فالثورة الفرنسية مثلاً لم تقم ببناء الدولة فيها قيادة الثورة، لكن بالمُقابل الثورة الصينية استطاع ماو تسي تونغ أن يعبر بالثورة إلى الدولة، ولكن المُشكلة دولة ماو مازالت دولة الحزب الواحد والرأي الواحد، فرغم أنّها أصبحت من أكبر اقتصاديات العالم، إلا أنّها سياسياً مازالت (في الروضة)، طبعاً هذا بالمقاييس الليبرالية، فمن كان يرى غيرها فليبني الدولة بأدوات الثورة.

الأمة العاقلة هي التي تستفيد من طاقة كل بنيها تأسيساً على قاعدة (كل ميسر لما خلق له)، فالثائر يثور والإصلاحي يصلح، والبنّاء يبني، فـ(وضع السيف في مَوضع النّدى مُضرٌ…) والشرح الكثير يُفسد المعنى..!

د.عبداللطيف البوني

‫4 تعليقات

  1. كلام سليم يجب على كل حادب الى مصلحة الثورة والوطن ان يضع نقطة سطر جديد لبناء الدولة التى هى هدف الثورة المرجو وشكرا يا استاذ البونى فعلا المرحلة مرحلة عقول

  2. مقال كبير ورائع وياليبت الثوار يقرأوا ويستفيدوا منه .. لكن الثورة حتى الان بدون قيادة وظهرت قيادة حزبية بيغضة تكره الشورى والحرية ولا تتطبقها في حزبها ولا الدول التي اقتبست منها فمثلا حزب البعث العربي الاشتراكي هل ممثله يرضى بالديمقراطية ونرى الان ماذا حل بسوريا حزب البعث العربي .. أم ممثل الحزب الشيوعي سبحان الله ابغض للشيوعية الحرية والشورى والديمقراطية وكانت قبلتهم في الماضي موسكو وبرلين الشرقية ووارسو والان اصبحت قبلتهم لندن وباريس وواشنطن
    وهؤلاء سوف يهدمون ما تحقق لأن ابعد شيء في ذاكرتهم الديمقراطية أو الحرية والايام حبلي بالجديد