أبرز العناوينتحقيقات وتقارير

جدل السجين الاستثنائي .. همهمات الاعلام ورجاءات القاضي في محاكمة البشير


سبت أخر ينسدل صباحه البارد على كتف الخرطوم، إذ لا شيء يلوح في الأفق غير أسراب الطيور وهى تلاحق موسم الحصاد في مكان ما، بينما أعقاب التبغ وقوارير المياه والأوراق الجافة المتساقطة من شجر اللبخ كانت طافية على صفحة النهر العظيم، واقتطعت أيضاً ذكرى المولد النبوي حظها من الميادين والحلوى والعرائس، بيد أن الشتاء حفر تضاعيفه القاسية من الحرمان والكآبة على وجوه السودانيين، بعد ثورة يصارع فيها الأمل لوحده تقريباً، وبات حراسها في شغل جديد، ما بين سؤال ما العمل؟ أو هجر صفحة تجمع المهنيين إلى قروبات “السميع واللبيس والإكيل السوداني” بشكل باعث على الدهشة.
بات عبء تغطية محاكمة الرئيس المعزول عمر البشير أمراً معتاداً طالما أنها تنعقد في الموعد والمكان نفسه، معهد التدريب القضائي بضاحية أركويت، دون توقع ما سيحدث، رغم المثل الفرنسي الشائع الذي استخدمه “أندرية موروا” عنواناً لإحدى رواياته ” غير المتوقع يحدث دائماً” وقد انقطع بالفعل صمت رهيب داخل القاعة المهيئة لمناسبة دائمة، على الأرجح، نحو ثلاثة ساعات بانتظار نصف ساعة فقط، غاب فيها الشهود، وحضرت صحيفة الوطن، وطلبات هيئة الدفاع التي ربما أتعبها الحفر على جدار المخارجة .
تأخر السجين الاستثنائي لأربعين دقيقة تقريباً، والقاضي أكثر من ذلك بعد أن اعتذر بلطف، نسبة لظرف اضطراري لم يسمه، حال دون حضوره في الميقات المعلوم، العاشرة صباحاً، وكانت أسرة البشير حاضرة بكثافة معتادة، العنصر النسائي غالب، والرغبة في التقاط وجه كثيراً ما تعودنا عليه، خلال ثلاثة عقود، وحفظنا خطاباته عن ظهر قلب، إلى درجة تخيل استشهاده بإسماعيل حسن ” ديل أهيلي” والتماس النجاة من السماء في شأن الرزق، وعبارة “الناس ديل يا جماعة قاصدننا في دينا” ليعاود بعده للمفارقة جدل الدين والدولة مرة أخرى، كما لو أنه كان يعرف ما سيحدث بالضبط حين يمضي، ولذلك كان ملتصقاً بنا كقدرنا، لأننا لا نعرف أحداً غيره، وهو ما جعل سؤال ” البديل منو؟” يرتفع شأنه في سنوات الحيرة والانقطاع.
كان القلق بادياً، والهمهمات تتدفق من منتصف القاعة، إزاء تداعيات زيارة البشير إلى (مركز السودان لطب العيون) نهاية الأسبوع الماضي. وما تلا ذلك بأن الرجل بات مهدداً بفقدان البصر، نسبة لأن حرارة السجن تسببت له في التهاب إحدى عينيه، والحديث أيضاً بأن البشير غادر الزنزانة ثلاث مرات، إحداهما لإلقاء نظرة الوداع على والدته الحاجة هدية، التي لم تكن تعلم أن إبنها الذي ألفته يتهيأ لعهدة رئاسية ثامنة يقبع حالياً في سجن كوبر، وإنما غُيبت عن كل ذلك حفاظاً على صحتها والعمرة يمضي إلى نفاد، بعد أن رأته قد علا شأنه ولم تتخيله أبداً في زنزانة ضيقة ينشد الحرية، وفي قفص بفتحات صغيرة يتطلع فيه الناس بشماتة، أو أسى كما رأينا اليوم، حيث كان صاحب (الرحيق المختوم) الدكتور عبد الرحمن محمد سعيد افترع وصلة من التكبير وشحن الأجواء بحالة إيمانية وسط وجوه مُتغضَنة باليتم .
دلف ممثل هيئة الدفاع أبوبكر هاشم الجعلي إلى مقعده هو يتأبط صحيفة سودانية، كانت ألوانها وخطوطها توحي بأنها صحيفة الوطن، والتي انتقلت رئاستها إلى يوسف سيد أحمد خليفة، الذي انتظر طويلاً لحظة تسنمه هذا الموقع، بعد أن كان يقود هيئة التحرير من وراء حجاب غير ساتر، وهاهو اليوم، متهماً بالتأثير على سير العدالة، وفقاً لهاشم الجعلي، وذلك بعد أن صدرت الصحيفة بعناوين أزعجت هيئة الدفاع برمتها، كونها قفزت أو تحدثت حرفياً عن إدانة البشير بالثراء الحرام، وحددت مواعيد إصدار الحكم، خلال أسبوعين، وقال الجعلي أن مثل هذه الأخبار توثر علي الدفاع والشهود ومسار القضية، وهى جريمة كما وصفها، قائلاً بصوت متظلم ” نحن نتعرض إلى عدوان النيابة والاعلام” وهذا من شأنه التأثير على العدالة” مطالباً المحكمة بإتخاذ أشد الاجراءات اللازمة لمنع ذلك.
لكن القاضي لم يدون الطلب في محضر الجلسة واكتفى بخطبة عامة حول دور الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي في تناول هذه القضية، التي وصفها بأنها ذات طابعٍ خاص، وقد تطرق كذلك لما أثير من لغط حول ظهور البشير في مركز العيون بالجلابية وتحت حراسة مشددة، بالصورة التي استنكرها المحامي “المعز حضرة” وهو يعلق على ذلك المشهد الذي أثار ردود أفعال مختلفة، إذ أن المعز كان قد كتب تدوينة على صفحته بالفيسبوك عن ما وصفها بشبكة خفية تتحكم في إدارة سجن كوبر، إلى درجة تمكين المتهم من العلاج بالخارج وفي معيته (17) سيارة مظللة، تتقدمها السارينا.
لكن القاضي الصادق عبد الرحمن الفكي أزال في مرافعة مرتجلة أوجه اللبس، منبهاً إلى أن المحكمة تعمل وفقاً لمنظومة اجرائية كاملة تحتم عليها استيعاب كل القونين، بما فيها قانون السجون، والذي يسمح للمتهم، طالما أنه لم يحاكم بعد، بتلقي العلاج وارتداء الزي الذي يريده، وقد اعتبر القاضي أن ظهور المتهم في أي موقع استشفائي مكفول له، إلى جانب أن الحراسة المشددة أملتها ظروف المتهم وعموم الأوضاع الأمنية، مشدداً على أهمية توخي الاعلام الحيطة والحذر، لا سيما وأن المحكمة مفتوحة ومسموح بنقل الحقائق، دون افراط في التحليل، وقد كرر القاضي حديثه بأهمية أن يطلع من يتناول جوانب القضية على كافة القوانين، حتى لا يخوض في نيران الإثارة والفتنة .
غير أن غياب الشاهد الوحيد، وربما الأخير، المراجع العام الذي يطل علينا منتصف ديسمبر من كل عام، عندما يصعد منصة البرلمان، وهو يرتدي بدلة كاملة بربطة عنق حمراء طويلة، فيبدو مفتوناً بالأرقام، منكباً على تقاريره، دون أن تتطلع الكاميرات في ملامح وجهه بدقة، فيصدر منه ما يثير العجب، كونه، أي المراجع العام الطاهر عبد القيوم، هو الوحيد الذي كان يضع الحكومة في قفص الاتهام، ويرمي وزارات التجنيب والشركات المحصنة بالفساد والتهرب، دون أن تفاجئه في الصباح ببلاغ إشانة سمعة، واليوم هو مطلوب بشدة للشهادة حول الأموال التي يحاكم فيها البشير، وبسبب غيابه عن الجلسة السابقة والحالية، حرر القاضي أمر قبض عليه مجدداً، بعد أن وضع طلب رفع الحصانة أمام رئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، لكن الطاهر في جولة من روسيا إلى جنوب إفريقيا وفقاً لمدير المكتب التنفيذي للمراجع العام عباس الماحي.
ومع ذلك تدخلت النيابة إزاء الاصرار على طلب شهادة المراجع العام وإعادة اعلانه، وطعنت في الطلب، باعتبار أن شاهد من الديوان تم سماعه خلال جلسة سابقة، وأعتبر الاتهام أن المحكمة مخول لها تقدير ما تراه مناسباً في ذلك، لكن القاضي أبدى استغرابه من طعن النيابة طالما أن التقدير من شأنه هو لا هم، فيما جاء طلب هيئة الدفاع الثاني على شكل التماس من المحكمة المؤقرة لاعمال سلطتها بموجب قانون الاجراءات الجنائية، من أجل اجراء معاينة على الموقع الذي قيل بأن الأموال التي يحاكم بسببها البشير ضبطت فيه، وهو موقع داخل بيت الضيافة، حيث نبه الدفاع بعد مراجعة المحضر أن صفحة (76) ورودت فيها عبارة ” بداخل منزله” أي الأموال عثر عليها داخل منزل البشير، بينما في موضع أخر من المحضر تمت الإشارة إلى ” داخل المكتب” وهذا تناقض كما بدا لهيئة الدفاع، لكن القاضي هب في وجه الدفاع موضحاً ان المحكمة لم تقل بعد، وهذه إشارة ربما وردت في أقوال أحد الشهود، غير أن الدفاع أشار إلى أن هذه الجزئية تحديداً وردت في استمارة التهمة، ما يستوجب فهم ذلك حتى يتبين الخيط الأبيض من الأسود، أو بالأحرى معاينة الموقع قطعاً لدابر الشكوك.
أما الطلب الثالث فهو السماح لهيئة الدفاع بإيداع تقرير أعده المقرر الخاص لحقوق الانسان، مبعوث الأمم المتحدة، عند زيارته للسودان من أجل الوقوف على أثار الحصار المفروض على الاجراءات المالية وتحويلات العملة، من وإلى السودان، وأثر ذلك على مجمل الوضع الاقتصادي، وقد استند الدفاع على تقديم التقرير بأن السودان يتمتع بعضوية الأمم المتحدة. هنا بدا القاضي كما لو أنه يريد معرفة ما تسعى له هيئة الاتهام بالضبط، وكذلك ارتفعت استفهامات النيابة، فوجه القاضي سؤاله لأبوبكر هاشم الجعلي” إنت داير شنو بالضبط؟” وأردف بأنه ملزم بمراجعة الميثاق، لا سيما وأن الدفاع التمس قبول التقرير وإيداعه ضمن وثائق المحكمة خاصة صفحة (13) وهذا ما جعل النيابة تعتبر الطلب الأول الخاص بالمعاينة تعطيل للاجراءات، كما أبدت عدم معرفتها بما يريده الدفاع من طلب إيداع تقرير المقرر الخاص، وقالت النيابة باختصار ” نحن لا نعرف ما يريده الدفاع ولا محتوى التقرير” لكن ممثل الدفاع قال بطريقة ساخرة ” الاتهام ذكر بأنه لا يعلم محتوى التقرير ونحن نعلم” .
لم تستمر الجلسة كثيراً، وقد بذل القاضي عديد النصائح والإشارات وأجاب صراحة على ما يدور في أذهان الرأي العام من شكوك وملاحظات بخصوص المحاكمة، مؤكداً أن سلطة السجون لديها تقديراتها كذلك فيما يخص المتهمين، وأنه طيلة (25) عاماً عمل فيها لم ير ما يمنع أي متهم من ارتداء ما يريده وياكل ما يريده، معتبراً أنه يتعامل مع متهم مجرد، لافتاً إلى أن حق الاستشفاء مكفول بالقانون، طالما ” أننا نتحدث عن حرية وعدالة” قالها وربما أفلت قاصداً “الثورة خيار الشعب” وشدد على أنه أمام القضاء لا يوجد غالب ومغلوب، مردداً بعد قسم مغلظ ” والله العظيم نحن نبحث عن عدالة طاهرة” مشيراً إلى أن الاستنتاج بالحكم، كما فعلت تلك الصحيفة، دون أن يذكرها بالإسم، غير مقبول، مؤكداً بأن الاعلام لن يثنيهم عن طلب العدالة، وأن المحكمة لم تحدد أي جلسة للقرار، ما لم يتم استيفاء كافة اجراءات المحاكمة، وخلص إلى أن السبت المقبل يصادف مولد المصطفى عليه الصلاة والسلام، ولا يفضل تعكير هذا اليوم المبارك، لذا فإن الجلسة سوف تنعقد في السبت الذي يليه .

عزمي عبد الرازق
عزمي عبد الرازق 2


تعليق واحد

  1. دارفور ليست سودانية ضمت للسودان عام ١٩١٦ بواسطة المستعمر البريطاني لاستغلالهم في المشاريع الزراعية والسكك الحديدية بعد قيام خزان سنار ومشروع الجزيرة بالاضافة الي الفلاتة والتشاديين الفلاتة اتوا من نهر النيجر والهوسا من نيجيريا كل هذة المجموعات ليست سودانية
    جبال النوبة ولا النيل الازرق مناطق لتجارة العبيد واكتشاف الذهب