سياسية

تمرُّد جهاز الأمن… جدلية الهيكلة والحل

بعد تفجر انتفاضة أبريل 1985 على أنقاض نظام الرئيس جعفر نميري، هتفت الجماهير على اختلاف ألوانها السياسية بحل جهاز أمن النظام، ومارست القوى السياسية ضغوطاً على الحكومة الانتقالية التي كان يمثلها قادة من القوات المسلحة برئاسة المشير الراحل محمد حسن سوار الذهب، قبل تكوين الحكومة المدنية برئاسة د. الجزولي دفع الله، وحين اشتدت الضغوط على المجلس صدر قرار بالحل، لكن التنفيذ كان مفاجئاً حيث لم يتم إعلان القرار قبل أن يتم وضع يد السلطات على أفراد وممتلكات ومستندات الجهاز، وقتها تحركت مجموعة من القوات المسلحة إلى مباني جهاز الأمن وحاصرته وسمحت بدخول الأفراد إلى الداخل، لكنها لم تسمح لأي أحد منهم بالخروج، وتم تنوير أفراد الجهاز بالقرار وأنه سيتم التحفظ عليهم مؤقتاً بغرض إجراء تحقيقات روتينية، وبالفعل تم ترحيل القوات على متن عربات نقل عسكرية إلى سجن كوبر لتنتهي فصول قصة جهاز عتيد اتهم بالتعسف مع الخصوم السياسيين والتنكيل ببعضهم داخل معتقلاته، كما اتصف بالقدرات الاستخبارية الجيدة وقدرته على اختراق كل القوى السياسية بما فيها الحزب الشيوعي البارع في عمليات التأمين، لتأتي بعد ذلك حقبة جديدة هي حكومة الإنقاذ الإسلامية لتسارع بتكوين جهاز أمني كان مثار جدل كبير لم ينته حتى بعد سقوط النظام بعد ثورة ديسمبر المجيدة في العام الماضي.

جهاز أمن الإنقاذ

عند استيلاء العميد وقتها عمر البشير على السلطة في الثلاثين من يونيو 1985 استعانت حكومة الإنقاذ بكوادرها للعمل بجهاز الأمن بحكم الولاء وربما بعضهم كانت لهم سابق خبرة في جمع المعلومات داخل التنظيم الإسلامي، بيد أن العمل التأميني في الحزب يختلف عن العمل المنهجي في الجهاز، لهذا فقد تمت الاستعانة بالعديد من كوادر جهاز الأمن المايوي للعمل بالجهاز الجديد، ولما كانت حكومة الإنقاذ تهتم بالتمكين ولها توجسات من حراك الأحزاب السياسية أو العسكرية وتدخلات بعض الدول العالمية وفي المنطقة، عمدت لدعم الجهاز بالإمكانات المالية الكبيرة والتوسع الكبير في تعيين الضباط والجنود والاستعانة الكبيرة بمصادر للجهاز، مما يعكس مدى تغلغل الجهاز في الحياة العامة في تلك الحقبة.

جهاز الأمن في ظل الثورة

عندما قامت انتفاضة ديسمبر المجيدة، خرجت أصوات تطالب بهيكلة جهاز الأمن وأصوات تطالب بحله واختار تيار الحرية والتغيير خيار الهيكلة بعد مفاوضات ماراثونية مع المجلس العسكري آنذاك، حيث خلصوا إلى أن هيكلة الجهاز هي من مهام المكون العسكري بحسب الوثيقة الدستورية، بينما صرح المجلس العسكري منذ أيام الثورة الأولى أنه سيحدث هيكلة داخل الجهاز، وأجرى بالفعل تغييرات بعد استقالة رئيس الجهاز عبد الله قوش، وتم تعيين رئيس جديد وإحالة عدد من الضباط في يونيو من العام الماضي وصفها الجهاز بأنها إجراء عادي يتم سنوياً، في حين أعلن الفريق أول عبد الفتاح البرهان إحالة مائة ضابط من الجهاز للتقاعد من ضمنهم (35) برتبة لواء شملت رئيس هيئة العمليات في الجهاز.

كذلك صدر قرار آخر من رئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان بإحالة عدد من ضباط جهاز الأمن والمخابرات من بينهم نائب رئيس الجهاز الفريق أمن عوض الكريم القرشي، وتعيين الفريق أمن أحمد إبراهيم مفضل، وشملت القائمة عدداً من مديري الإدارات.

دواعي الهيكلة

لعل من أكبر التحديات التي واجهت الثورة المهددات التي يمثلها النشاط الهدام الذي يمكن أن تقوم به عناصر حكومة الإنقاذ البائدة، وأن الآلية المتاحة التي يمكن أن تقوم بمواجهتها تلك هي جهاز الأمن الذي كان قائماً إبان حكومة الإنقاذ والذي كونته على أساس عقدي سيما في رتبه العليا والوسطية، مما يشكل تحدياً كبيراً يواجه تلك المهمة.

ويرى المراقبون أن عقائدية جهاز الأمن التي نشأ عليها تتكئ على مفاهيم وأسس بقاء النظام الإسلامي كهدف مركزي علو على سواه، الأمر الذي يتقاطع مع مبدأ الولاء الوطني مع طرح ونهج وأدبيات النظام الجديد، من هنا برزت ضرورة إجراء هيكلة متوازنة في داخله مبنية على التدرج لإحداث عملية الإحلال الهادئ قبل أن تلفظ الفترة الانتقالية أنفاسها، كما أن التحديات الكبيرة التي أخذت تواجه الحكومة الانتقالية عبر الأزمات الأمنية التي حدثت في بعض المكونات القبلية والتي لها تقاطعات داخلية وخارجية بالإضافة لحدوث بعض التفلتات الأمنية التي حدثت في بعض أطراف السودان، كانت تحتاج إلى تقديم معلومات إنذار مبكر قبل تداعيها، بالإضافة إلى أحداث الثلاثاء الماضية التي حبست من جرائها العاصمة أنفاسها، حينما تمرد عدد من قوات العمليات بجهاز الأمن البالغ عددها (13) ألف فرد، الذين رفضوا مبلغ تسوية حقوقهم لما بعد إنهاء الخدمة واعتبروها غير مجزية بالنسبة لهم، وكانت السلطات قبل إجراء الهيكلة قد خيرت أفرادها في إطار الهيكلة بين الانضمام لوحدات أخرى داخل الجهاز أو الالتحاق بالدعم السريع أو تسوية حقوقهم .

خيارات الحل

بعد أن تحصن أفراد وحدة العمليات داخل مبانيها، وظلت تطلق الرصاص في الهواء في خطوة احتجاجية صارخة وصفتها الدوائر العسكرية الرسمية بالتمرد على النظم العسكرية والمفاهيم الانضباطية، وكان لتداعيات الحدث إغلاق بعض الطرق بالإضافة إلى تعليق حركة الطيران بمطار الخرطوم الدولي، وإثارة القلق لدى المواطنين وتحريك العديد من الشائعات والمخاوف التي اتجهت للقول بأن ما حدث ليس صدفة وربما مقدمة لمخطط يستهدف الإطاحة بالثورة، الأمر الذي دفع العديد من الثوار للتجمع لحماية ثورتهم التي رسموا ملحمتها بمداد الدم، وعلى ضوء تلك التداعيات الجديدة وأحداث التفلتات المتوالية التي شهدتها العاصمة مؤخراً ووصفها الكثيرون بأنها ليست بعيدة عن أيادي الدولة العميقة، وانطلقت أصوات عديدة من قبل الثوار بعد تمرد وحدة العمليات بجهاز الأمن وعطفاً على ما سبق طالبت بحل جهاز الأمن، وهو مطلب شاركت فيه العديد من النخب السياسية المتعددة باعتبار أن جهاز الأمن جهاز عقائدي يكن الولاء لنظام الإنقاذ بطرحها الإسلامي البرجماتي الذي طمسته وداست عليه بعجلات التجربة التي امتدت لثلاثين عاماً خلت، ولهذا فإن استمرار الجهاز سيما بعد الحدث الأخير يمثل خطراً ماحقاً يهدد الثورة الوليدة كما يرون، كما أن وجوده وتواصل نفوذه الخفي من شأنه أن يحد من خطوات التحول المدني الديمقراطي وإحداث النهضة الاقتصادية المنشودة بالتعاون مع القوى القديمة التي حرسها لثلاثة عقود من الزمان بسنان قاسية، فضلاً عن أن ثمة مخاوف من إمكانية قيام الجهاز باللعب في الأماكن المظلمة عند بدء السجال الانتخابي بعد انتهاء أجل الفترة الانتقالية الحالية لصالح القوى المدحورة.

المؤيدون للهيكلة

كما ذكرنا ارتضت قوى الحرية والتغيير ربما على مضض بخيار هيكلة الجهاز بديلاً للحل، وربما تعاطته القوى الراديكالية كأمر واقع ودواء مر لابد من شربه، ورأى المؤيدون أن الهيكلة في حال نجحت في إبعاد العناصر المتعصبة لنظام الإنقاذ من شأنها أن تمثل خياراً يتناسب مع الطقس السياسي والأمني الحالي، وأن خيار الحل قد يشكل خطورة على استقرار الفترة الانتقالية فضلاً عن تأخير خطوات التوافق السياسي مع المجلس العسكري الذي تطاول كثيراً في ظل مخاوف عديدة على الثورة تمثلت في الدولة العميقة وتقاطعات القوى الخارجية، كما أن العسكريين بحكم تركيبتهم الأمنية كانوا ميالين للهيكلة ورفض خيار الحل.

المؤيدون لحل الجهاز

منذ أن استلمت حكومة الإنقاذ السلطة وأحكمت قبضها الأمنية ظلت تحاول عن طريق نخبتها إطلاق أدبيات وأقوال معارضة لقرار قيام الفترة الانتقالية في أبريل 1985 بحل جهاز الأمن المايوي في خطوة الغرض منها التكريس في العقل الجمعي لدى الجماهير لمنع أي مطالبات بإجراء أي خطوة من شأنها أن تحد من سلطات أو تقلص صلاحيات جهازها الأمني الممتد في كل مفاصل الدولة والمجتمع، رغم ما قيل عن سلوكه التعسفي، لأن ذلك وإن حدث يعتبر لديهم قرباناً رخيصاً لتحصين الجهاز من أي تقليص لصلاحياته وسلطاته.

وقد ساد مفهوم لدى الكثير من النخب بأن قرار حل جهاز الأمن المايوي لم يكن صحيحاً، وشكل مخاطر جمة بحجة أن الحل تسبب في تسريب العديد من الملفات لدى الدوائر الخارجية التي سارعت بتلقفها بالرغم من أن ذلك لم يكن صحيحاً بحسب كثير من المراقبين، حيث أن المصادر الموثوقة أكدت أن أهم الملفات الحساسة تم تسليمها لرئيس جهاز حصر جهاز الأمن آذاك اللواء الهادي بشرى، وأن ما تسرب هو تقارير عادية عن الحياة اليومية للنشاط السياسي والنقابي ولا تشكل مهدداً حقيقياً لأمن البلاد في الفترة الانتقالية أو ما بعدها بعد إجراء الانتخابات كما أن ما تسرب لم يكن يخفى على أجهزة المخابرات العالمية أو الإقليمية لأنها كانت ماثلة أمامها، كما أن حل جهاز الأمن المايوي وتصفيته بحسب المراقبين كانت له إيجابيات عديدة، حيث أن الفترة الانتقالية كانت تخلو من المطبات والألغام المتمثلة في التفلتات الأمنية على الصعيد الداخلي باستثناء تمدد حركة قرنق المسلحة، كما أن تلك الفترة لم تشهد أي تحركات سياسية من قوى النظام المايوي المتمثل في نظامه الأحادي الاتحاد الاشتراكي، علاوة على أن الانتخابات التي جرت في العام 1986 جرت في أجواء هادئة وبشفافية كبيرة خالية من كل الأيادي الخفية التي طالما امتدت كثيراً إلى صناديق الانتخابات خلسة في عهد الإنقاذ.

وماذا بعد؟

بالرغم مطالبة العديد من القوى السياسية بحل جهاز الأمن الحالي أو إجراء هيكلة جذرية في صفوفه بعد الأحداث الأخيرة، لكن التوافق الأخير بين المكون المدني والعسكري وارتياح الجماهير لحسم القوات المسلحة والقوى المساندة للوحدات المتمردة بعد الحدث الأخير فربما جعل من خطوات الهيكلة داخل جهاز الأمن أن تطبخ على نار هادئة وبقدر محدد ربما يكون دون المطامح الراديكالية لقوى الثورة، لكنها على الأقل ستكون راضية ما لم تحدث أحداث أخرى تهدد ثورتها وانطلاقتها لإحداث التحول المنشود.

الصيحة