رأي ومقالات

الإلباس المريح

من خلال ملاحظتي علي حملة إزالة القراي ، تلاحظ لي أن أنصار القراي يتهمون الذين يطالبون بإقالته أنهم كيزان. وكل سوداني يعرف تماماً أنه في السابق كل من إنتقد حكومة الكيزان يتهمونه بأنه شيوعي. فإذا أردنا أن نحلل هذا السلوك ، فنجد أن كل فريق يتهم الأخر بما هو منبوذ في السياق الزماني للمجتمع ، فتحصل حالة إرتياح نفسي للمجموعة جراء أي نقد موجه لها ، ولسان حاله يقول لأفراده أن المنتقد هذا له أجندة سياسية وان ليس هنالك خلل في سير إدارة الدولة. وهذا السلوك سماه بعض العلماء بالإلباس المريح للأشياء ، والذي عادة يقوم به قادة طائفة ما بإلباس الحقائق لباساً غير حقيقياً لكي تهدأ نفوس الأتباع القطيع ، والإلباس قد يكون بتلفيق ديني أو من معتقدات محلية أو جذور ثقافية مقدسة للمجتمع.

يعتمد الإلباس المريح علي نظرية التنافر المعرفي للعالم الأمريكي لفستنجر وسمي النظرية ب (Cognitive dissonance theory) ، ونظرية التنافر المعرفي تعد واحدة من بين أهم نظريات علم النفس الاجتماعي والتي أثبتت حقيقة كيف أننا كبشر نميل لعقلنة اللامعقول للشعور بالرضى عند حدوث تنافر بين معتقداتنا وتصرفاتنا ، بل أننا ننتهج هذا السلوك لاشعوريا في حياتنا اليومية. ونقوم بإحداث الإلتساق المعرفي عبر توظيف النصوص المقدسة والمقبولة للمجتمع. وايضا هنالك تقاطعات صلة ما بين نظرية التنافر المعرفي في علم النفس الاجتماعي ونظرية ميكانيزمات الدفاع النفسي بعلم النفس التحليلي لدى فرويد Psychological defense mechanisms- Freud.

ومهما يكن من أمر ، فإن سيكولوجية الإلباس المريح تعتبر متجذرة في الشخصية السودانية ، فتجدها تتمظهر في السلوكيات المرتبطة بإلباس المعتقدات المحلية لتتماشى مع الدين الإسلامي. فمثلا نجد أن أهلنا الصوفية الذين أدخلوا الإسلام في السودان وفي ذلك العهد واجهوا ثقافات محلية مرتبطة بوجدان الشعب السوداني مثل حب الغناء والرقص والطرب ، فما كان منهم إلا وأن ألبسوا (دق النوبة والكشاكيش) بلباس الشرع فجعلوها من أساليب العبادة والذكر ، وكذلك ظاهرة ختان الإناث فبالرغم من أنها عادة وثقافة أفريقية موجودة من قبل الإسلام في العهد النوبي القديم ، إلا أن المجتمع السوداني ألبسها لباسا فقهيا ، فتجد هذه العادة منتشرة فقط في افريقيا ولا تجد لها أثر في الجزيرة العربية مهبط الوحي الاسلامي.

وأيضا من أمثلة الإلباس المريح ، أن طائفة يهودية أرثوذكسية اعتقدت بأن مناحم مندل شنيرسون (Menachem Mendel Schneerson) الحبر اليهودي الأرثوذكسي الشهير لن يموت. لكن عندما تُوفي بسكتة دماغية في عام 1994م ، وبدلا من قبول فكرة الموت، أشاع بعضهم أن مناحم هذا هو المسيح فعلا وسيتم قريبا بعثه من بين الأموات في وقت قريب. وكذلك كان يعتقد الجمهوريون بأن محمود محمد طه لن يموت حتي يكمل الرسالة الثانية ، ولكن عندما تم إعدامه شنقا حتي الموت في العام 1985م ، أشاع أتباعه الجمهورين بأن محمود (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ) ، وذلك حتي يتسني لهم تقبل هذه الصدمة ويحافظوا علي اتباعهم من الخروج عن الفكرة الجمهورية.

فالناس ظلت علي الدوام لاتحب الحقيقة مهما كان ، ولكنها تحب كل ما يُؤكد أن معتقداتهم وأفكارهم هي الحقيقة ، للاسف الشديد . و أعتقد أنّ الناس لن تتخلى عن معتقداتها الخاطئة إلا في ظلّ كمّ ضخم جدًّا من المعلومات والحقائق التي تُكذّب مصداقية المعتقد الخاطئ ويستغرق هذا وقتًا طويلاً يبدأ بخروج تدريجيّ لأفراد “الطائفة” عن إيمانهم ومن ثمّ الضعف التدريجيّ في التأييد الاجتماعيّ الذي يحافظ على ترابط أصحاب هذه الطائفة.

أوصي كلا الطرفين بتقبل النقد والرأي الآخر وتطبيق قاعدة الإمام الشافعي رحمه الله في تعامله مع المخالفين له في إجتهاداته: قولي صواب يحتمل الخطأ ، وقول المخالف خطأ يحتمل الصواب. لذا يجب علينا ترسيخ ثقافة الاختلاف ليس فقط في الرأي بل أيضا في السلوك والخُلق والحريات الشخصية ، ونبذ التطرف والتشدد في الرأي والتعصب لفكرة ما. ومما لاشك فيه أن التنوع الفكري، والتعددية الثقافية، وحضارية الحوار والآراء ، هو مصدر قوة وإثراء للمجتمع وللبشرية عامة.

إننا اليوم أكثر حوجة من أي وقت مضى لثقافة الحوار وقبول الآخر وتطبيق قاعدة الرأي والرأي الآخر، واعتبار ذلك عامل اثراء فكري للمجتمع، وزرع هذه الثقافة في المجتمع باعتبارها حاجة ملحة وضرورية، ورفض ثقافة الالباس المريح التي تكرس للإنغلاق والإنكفاء ورفض التعايش مع الأخر وترفض القبول للآراء المختلفة ، مما يؤدي الي الجمود الفكري للمجتمع.

وأختم بمقولات خالدة:
يقول فولتير: ” قد أختلف معك في الرأي، ولكني على استعداد أن أموت دفاعاً عن رأيك”
ويقول غاندي: الاختلاف في الرأي ينبغي ألا يؤدي إلى العداء وإلا لكنت أنا وزوجتي من ألد الأعداء.
تحياتي
عمادالدين العوض

تعليق واحد

  1. ازالة القراي ستظل قضية ساخنة باذن الله ولن نستكين حتي ازالته ولو لم تكن كورونا لرايتم بيان عملي ،،، اتمني ان يزال اليوم حتي يستقر العام الدراسي القادم