رأي ومقالات

مد الجذور للخارج مرة اخري.. السودان مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون


منذ أن تسلمت هذه الحكومة زمام الأمور وأعلنت أنها تخطط لإدارة الاقتصاد وفقًا لحكمة البنك الدولي وصندوق النقد جنحت دائمًا لبيع فلسفتها الاقتصادية بـالتأكيد على ضرورة خيارتها لأنها ستؤدي إلى الإلغاء الدين السيادي. علاوة على ذلك، تم تصميم خطاب الحكومة لإعطاء الانطباع بأن إلغاء الديون يمكن تحقيقه بسرعة وأنه سيؤتي ثمار اقتصادية سريعة. ولكن جل هذه المزاعم المعلن منها والمضمن لا يعدو ان يكون مبالغة دعائية، إذا افترضنا أن كل المتحدثين باسم الحكومة يعرفون ما يتحدثون عنه. في هذه المذكرة ، سألقي شيئا من الضوء علي تفاصيل عملية إلغاء الديون وموقع السودان من اعرابها.
تم إطلاق مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون من قبل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في عام 1996 ، بعد ضغط شعبي, عالمي واسع النطاق من قبل الحركات والمنظمات غير الحكومية والهيئات الأخرى. تهدف المبادرة لإلغاء أو تقليل مدفوعات الديون الخارجية إلى مستويات مستدامة تعني إمكانية السداد في الوقت المناسب في المستقبل.
تم تصميم المبادرة لتشمل 36 من البلدان الفقيرة المثقلة بالديون ليس من ضمنها السودان رغم ان 30 منها في أفريقيا .
تشتمل عملية تخفيف عبء الديون علي ثلاث خطوات:
أولا ليكون البلد مؤهلا للدخول في المبدرة يجب ان تنطبق عليه هذه الشروط:
– أن يكون مؤهلاً للاقتراض من وكالة التنمية الدولية التابعة للبنك الدولي ، والتي تقدم قروضًا بدون فوائد ومنحًا إلى أفقر بلدان العالم.
– مواجهة عبء ديون لا يمكن تحمله ولا يمكن معالجته من خلال الآليات التقليدية لتخفيف الديون.
ومن الواضح ان السودان يستوفي الشروط أعلاه ولذا بإمكانه ان يطلب الدخول في المبادرة.
بعد الدخول رسميا في المبادرة يجب على البلد أن يفي بمعايير معينة ، وأن ينفذ تغييرات في هيكل الاقتصاد ينادي بها البنك والصندوق, وهي تقريبا ما تعرف بسياسات التكيف الهيكلي التي وصفها وزير المالية السابق بأنها سيئة الصيت. واهم بنودها:
– تعويم أو تخفيض قيمة العملة.
-خفض عجز الميزانية من خلال زيادة الضرائب وخفض الإنفاق الحكومي بـالحد من فاتورة الأجور والتوظيف الحكومي وقد يمتد خفض الانفاق ليؤثر علي فرص تمويل الصحة والتعليم والبنية التحتية.
– إلغاء الدعم السلعي.
– رفع أسعار ورسوم الخدمات العامة التي تقدمها الحكومة.
– تخفيض الأجور والعمالة في القطاع العام.
– تقليل تمويل البنوك التجارية المتاح – الائتمان المحلي- للسيطرة علي التضخم.
– تحرير وتفعيل آلية السوق وترك الأسعار لتقلبات العرض والطلب من غير تدخل من قبل الحكومة بما في ذلك أسعار السلع الحساسة.
– خصخصة الشركات المملوكة للدولة.
-تعزيز وحماية حقوق المستثمرين الأجانب بموجب القوانين الوطنية بما يتيح لهم حريات واسعة بما في ذلك تحويل الارباح والتصدير وغيره.
– تحرير التجارة – تحرير الواردات، مع التركيز بشكل خاص على إزالة القيود الكمية والتراخيص اضافة الِي تخفيض وتوحيد نسبي لمعدل الجمارك علي مختلف السلع المستوردة.
نقطة القرار: بمجرد استيفاء أو إحراز تقدم كافٍ في الاجندة أعلاه أو بعضها بدرجة مرضية للبنك والصندوق ، يقرر مجلساهما التنفيذيان رسميًا أهلية البلد المعين للإعفاء من الديون ، وتلتزم شريحة من مجتمع المانحين, وليس كلهم, بتخفيض الديون التي تخصهم إلى مستوى يُعتبر مستدامًا.
وبمجرد أن يصل بلد ما إلى نقطة اتخاذ القرار الخاصة به، يبدأ تخفيف مؤقت يتعلق بتخفيف وليس الغاء مدفوعات خدمات الديون ويظل أصل الدين بعيدا عن هذه المرحلة. عند بداية المبادرة كان الوصول لنقطة القرار يستغرق ثلاث سنوات , ولكن تم تغيير المدي الزمني وصار مفتوحا بلا قيد ويعتمد فقط علي درجة رضاء البنك والصندوق وهذا يعني ان تاريخ الوصول الِي نقطة القرار غير قابل للمعرفة بـيقين.
بعد نقطة القرار تبدا جولة اخري من تنفيذ السياسات التي يدعو لها البنك والصندوق لترسيخ وتوسيع ما انجز في المرحلة الاولي. تستغرق المرحلة الثانية ايضا حوالي ثلاث سنوات اخري أو نحو ذلك, قابلة للتعديل. وفي حال تنفيذ كل ما اتفق عليه يقرر البنك والصندوق ان البلد وصل الِي نقطة الإنجاز التي تشمل تخفيض دائم غير مؤقت وغير قابل للإلغاء لجزء من الديون لا كلها.
حاليا تواجه المبادرة مشكلة تتعلق بكون الموارد المتاحة حاليًا للبنك والصندوق غير كافية لتمويل تكلفة تخفيف أعباء الديون المستحقة لدولتين استوفتا الشروط الأولية لتخفيف الديون ووصلتا إلى نقطة القرار. ولم تتضمن خطة تمويل المبادرة الأصلية تكلفة تخفيف عبء الديون عن السودان .
وفي حالة تقدم السودان نحو نقطة القرار، فستكون هناك حاجة ملحة للبحث عن مصادر تمويل لتخفيف عبء ديونه وهذه ستكون مهمة غير سهلة في عالم ما بعد الكورونا اذ تحتاج الدول المانحة الِي سنين لتجاوز الديون التي راكمتها نتيجة لتداعيات الجائحة.
التحدي الآخر يتعلق بعدم وجود آلية تضمن حصول البلدان المؤهلة على إعفاء كامل من جميع مقرضيها. عموما يلتزم بالتخفيف وليس الالغاء الكامل دائنين مثل البنك الدولي ، وبنك التنمية الأفريقي ، وصندوق النقد ، وبنك التنمية للبلدان الأمريكية ، و دائني نادي باريس. بينما لا يلتزم المقرضين من خارج هذه المجموعة مثل المؤسسات الأخرى والدائنون الثنائيون الرسميون من خارج نادي باريس ، والدائنون التجاريون وبعضهم لم يقدم أي إعفاء على الإطلاق.
حتى الان شاركت 37 دولة في مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون, 31 منها في افريقيا, وحصلت علي إعفاءات بلغ مجملها حوالي 100 مليون دولار خلال ربع قرن, بمتوسط 2.7 مليار دولار للدولة الواحدة.
فيما يختص بالسودان يجب ملاحظة الاتي:
أولا , العملية طويلة , ولو تم الوصول الِي نقطة القرار بعد ثلاث سنوات, سيتم تخفيف عبء خدمة الديون , وهذا سيكون انجازا دفتريا رغم اهميته لن يغير شيءا علي أرض الواقع لان السودان أصلا تقريبا قد توقف عن دفع هذه الخدمات.
ثانيا , حتى لو تم الاتفاق الصارم بالعملية, ووصل السودان الِي النقطة الأخيرة للاعفاء, نقطة الانجاز, بعد ست سنوات مثلا, فلن يتم اعفاء كل الديون ولا يوجد ضمان حتى لإعفاء معظمها لان ذلك متروك لقرار أصحاب الديون التجارية والمؤسسات الأخرى والدول التي لا تنتمي لنادي باريس .
ثالثا, خطة تمويل المبادرة وصندوقها حاليا لا تشمل السودان, وفي حال وصول السودان لنقطة القرار سيحتاج البنك والصندوق للبحث عن مصادر تمويل لحصتيهما فقط من ديون السودان, والتي إضافة الِي حصة بنك التنمية الافريقي في حدود ثلاثة مليار دولار أو 5% من مجمل ديون السودان.
رابعا: معظم مقرضي السودان لا يهمهم استرداد أموالهم, فاصلا لم يستلم السودان اكثر من 18 مليار دولار من الديوم, تولد منها عبء 42 مليار دولار عبارة عن فوائد وعقوبات علي تأخير السداد. حصة كل من أهل الدين تافهة بالنسبة لحجم جيبه ولكن الدين السوداني دين سياسي بالدرجة الاولي لا يهتم اهله بتحصيله ولكن يتم استخدامه لانتزاع تنازلات من دولة السودان واثبات تبعية القرار الوطني وهذا يرجح ان الكثير من الدائنين سوف يحافظون علي ديونهم بدون اعفاء لاستعمالها كعصا تطويع ثمينة خاصة ان الاطماع السياسية والاقتصادية علي موارد البلد لا حد لها.
خامسا, الشروط المرتبطة بالمبادرة قاسية وقد تقود الي اضطرابات سياسية وتفكك وطني قد يتسبب في التراجع عن المبادرة وبالتالي الفشل في الوصول الِي نقطة القرار أو نقطة الإنجاز الأخيرة.
يترتب علي كل ما ذكر أعلاه ضرورة ان يكف خطاب الحكومة عن التعامل مع قضية الديون بتلك الخفة التي لا تجوز وان يتوقف عن تغذية الأوهام وشراء الوقت بالمراوغة المعسولة عن قضايا غير مفهومة للمواطن العام.
كما تم توضيحه أعلاه فان اعفاء الديون أو تخفيف عبئها قضية ملغمة ومفخخة وشائكة وطويلة ومؤلمة في افضل سيناريوهاتها ويندرج تعامل الحكومة معها كفصل من رحلة بحثها عن الحلول الاقتصادية في الخارج بما انها بالميلاد حكومة نبات القرع التي لا تمد جذورها الا الِي الخارج.
وقد جادلنا كثيرا بان العلاج الاقتصادي يجب ان يبدا في داخل البيت السوداني وبأيدي سودانية ويتم التعامل مع الخارج بما يلزم كعامل مكمل في كل الملفات, بما في ذلك الديون, حتى لا يكون الخارج ورضاء الأجنبي هو المبتدأ وسدرة المنتهي.
ولا شك في حق الحكومة في متابعة ما تراه مناسبا من السياسات ولكن لو اختارت السفر في رحلة مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون في هذه الاوضاع القابلة للانفجار فلتفعل ذلك بعد مصارحة الشعب بالحقائق فهذا الشعب ذكي وقادر علي التضحيات المبررة ولا داعي للدعاية والتسطيح والتجهيل ولتلويح بكرم اجنبي قريب فهذا اجرام يستهدف عقل الشباب الذي روي شجرة الثورة بدمه.

د. معتصم أقرع


تعليق واحد