منوعات

د. عمر آدم قبله يكتب : الطريق إلى مُدن الملح… (3-3)

ھبط البحیرة لا يكف عن التلفت والسؤال

وكأن ھاتفةً به ھتفت تقول له تعال

قالوا أطال وقوفه بالجسر قلت نعم أطال

الجسر أوقفه وأوقفه على الجسر الجمال.

ھذه الدیباجة وفقاً لما ھو مدون، منسوبة إلى الشاعر خلف الله بابكر وسواء صح ذلك أو لم یصح فالرجل شاعر یستحق أن نتوقّف عنده لنقرأ له وعنه بمزید من الاھتمام.
وأنا بھذا الاستھلال أتمنى أن أجد عذراً عند القارئ یتیح لي العودة مرة أخرى الى ریفي بارا في ترویحة ثالثة، كانت شرشار ھي خاتمة مطاف الرحلة الأولى. فقد وصلنا الى ھناك والوقتُ أصیل. دلفنا مباشرةً الى الوادي الطیني غرب المدینة والذي یمتد الى ساحله الشرقي حقل من الآبار ذات المیاه المالحة. عند احدى الآبار كان ھناك صبیة یحضرون نوعاً محدداً من التربةً ویقومون بإذابتها في الماء المستخلص من البئر ثم یرشحونه لفصل متبقي التربة غیر الذائبة. علمنا منھم أن ھذه التربة ملحیة تتم إذابتھا لزیادة ملوحة الماء، في الجزء الشمالي من منظومة الآبار وجدنا رجلاً یسحب الماء من البئر لیفرغه مُباشرةً في عربة كارو. سألناه عن أفراد أسرة بعینھا إن كان بعضھم لا یزال یقیم ھناك، أشار الى مجموعة منازل لیست بعیدة من الوادي، وقال إنھم یسكنون في ھذا الجزء من القریة. وأعطانا الرجل وصفاً واضحاً لطریق العودة.
تحرّكنا لنلتقي الطریق الذي اتجه بنا جنوباً عبر وادٍ رمليٍ فسیح تغطي بعض أجزائه أشجار كبیرة تتشابك أغصانھا في الأعلى مكونة غابات صغیرة متفرقة. عبر ھذا الوادي تندلق میاه الأمطار باتجاه “دمایر” وما یُعرف بمنطقة الخیران. الآن أدركت لماذا یجزم خبراء المیاه أن حوض بارا الجوفي تتم تغذیته بملایین الأمتار المكعبة من المیاه العذبة عند منطقة الخیران. توقفنا ھنا قلیلاً لأداء صلاة المغرب ثم تحركنا باتجاه مدینة بارا التي توقّفنا عندھا لمراجعة أحد الإطارات.
وصلنا مدینة الأبیض قبل منتصف اللیل، في وقت لا تزال فیه الشوارع والأسواق عامرة بحركة الناس والسیارات. في یولیو من العام 2005 بدأت رحلتنا الثانیة، وھذه المرة كانت الخُضرة تُحاصر شارع الأسفلت من الرھد حتى مداخل مدینة الأبیض. على جانبي الطریق كانت المیاه تغطي مساحات واسعة من الأرض حتى یتخیّل للناظر أنه في بیئة من المستنقعات اللا متناھیة. كانت قطعان من الماشیة بأنواعھا المختلفة تزین جانبي الطریق. وصلنا الأبیض عصراً وتحركنا منھا صبیحة الیوم التالي لنتوقف عند أم قلجي (البئر) على بُعد أمتار من شارع الأسفلت. أخذنا فكرة عن المنطقة من شاب كان یستقي ھناك. قال لنا ھذه منطقة الدكتور/ #الضو مختار، وأشار باتجاه قریة على البُعد. تحرّكنا بعدھا الى مدینة بارا وأمضینا فیھا أكثر من ساعة مررنا خلالھا على السوق وبعض المباني الحكومیة والجنائن القریبة. وتساءلنا لماذا لم تُعمّم فكرة زراعة أشجار الظل الوارفة على مدن السودان الأخرى وقُراه. وكنا نود التحرك من ھناك باتجاه الشمال الغربي، ولكن یبدو أن تقاطعات الطرق قد غیّرت وجھتنا. توقّفنا عن “الحديّد شریف” و”الحدیّد أم نبق” و”أم جزیرة” و”مجرور” لنصل أخیراً لمنطقة “السراج” التي بھا مجمع لتحفیظ القرآن. ھنا قیل لنا إنكم قد تركتم الطریق المؤدي إلى شرشار خلفكم. قفلنا راجعین حتى وصلنا إلى قریة “معافى” حیث توقفنا عند البئر وأخذنا وصفاً جدیداً للطریق.
اتجھنا غرباً بمیلان قلیل ناحیة الشمال لنلتقي مباشرةً بالتلال الرملیة المتقاطعة والتي ینحدر بعضھا بصورةٍ حادة نحو الواحات الصغیرة في الأسفل. وھي منخفضاتٌ لا یتجاوز عمق البئر فیھا أكثر من عشرة أمتار، بعض ھذه الواحات مُحاطٌ بأسوار من فروع الأشجار الشوكیة وبعضھا یستخدم الوابورات لضخ میاه الري، حیث تزرع على جانب الأشجار، أشجار النخیل والموالح وبعض الخضروات مثل الطماطم والبامیة والجرجیر وغیرھا. ویقال إنه یوجد ما یقارب الثمانمائة منخفض من ھذا النوع. لكل واحدة من ھذه الواحات الصغیرة اسمٌ. توقفنا عند حوالي منھا كانت إحداھا تسمى (الكلیوة). اتجھنا شمالاً الى منطقة (دمایر). في واحدة من تلك الدمایر كانت المساكن قریبة من موقع البئر وتوجد مبانٍ حكومیة مبنیة بصورة جیدة احدھا مدرسة وربما یكون المبنى الآخر مركزاً صحیاً. تحرّكنا من “دمیرة عبدو” صوب شرشار عبر الوادي الفسیح، وصلنا قبل الغروب بقلیل والمدینة یسودھا جوٌّ خریفيٌّ غامرٌ. سُحب بنیة بعضھا بلون داكن أقرب إلى السواد وأخرى بیضاء بلون الثلج. وھزیمُ رعدٍ لا ینقطع من ناحیة الشرق وزخات مطر. والشمس تكاد تحتجب عند الأفق لتكون لوحةً من الألوان المتداخلة والمُتباینة مع حركة ریاح ھادئة. توقّفنا عند السوق الذي بدأ یغلق أبوابه للتو. راجعنا الإطارات ثم اصطحبنا بعد ذلك أحد الشبان إلى منزل (حسن ود عبد الله) في الجزء الغربي من المدینة. كان مجیئنا على غیر موعدٍ ولا سابق معرفة بالرجل. استقبلنا أھل الدار بترحابٍ حارٍ. بعد تبادل التحایا والتعارف وأداء صلاة المغرب حضر الغداء. وما ھي إلا لحظات حتى أقبل علینا خمسة من الجیران، یحمل كل منھم (صینیة غداء) بعدھا توافدت صبّارات الشاي والقھوة، وامتدّ الانس والتعارف حتى اضطرنا ھطول الأمطار للتفرق. وھكذا أمضینا لیلة خریفیة قلّ أن یجود الزمان بمِثلھا. أوصلنا الانس والدردشة الى أن أرحاماً متعددة بصاحب الدار وأسرته أقرب بكثیر من الرحم الذي أتیناھم عبرھا.
في الصباح الباكر، خرجنا للتجوال حول المدینة الصغیرة التي ترقد على ربوة عالیة نسبیاً، یحدھا من الغرب الوادي الطیني الذي تتخلّله آبار المیاه المالحة ویحدھا من الشرق وادٍ رملي فسیح تتخلله عدة آبار تستخدم میاھھا لسقایة الحیوانات ویُمكن أن تستخدم لبعض الأغراض الأخرى في المنزل. ویمكن وصف المیاه ھنا بأنھا ذات عذوبة نسبیة مقارنة بما ھو ھو الحال في غربي المدینة. الواقع ھنا یجعل فكرة الملح الاُجاج والعذب الفرات أكثر وضوحاً. یلتقي الوادیان في الناحیة الجنوبیة للمدینة لتصبح بذلك أشبه بجزیرة تحاصرھا الأودیة ویبقى منفذھا الوحید نحو البر ھو الجانب الشمالي الذي تحده من على البُعد جبال. عدنا الى المنزل لتناول لتناول الإفطار ثم أخذنا الإذن من أھل الدار وجیرانھم بالمُغادرة. اتجھنا غرباً نحو القاعة. أمضینا بعض الوقت ھناك لنقف في أكثر من موقع، على طریقة إنتاج الملح في المنازل. غادرنا بعد الظھر بصحبة بعض المواطنین الذین یریدون الوصول الى “دمایر” ومنطقة الواحات الصغیرة والتلال الرملیة باتجاه بارا ومنھا الى مدینة الأبیض العریقة.
في ختام ھذه الترویحة، یلزمنا أن نزف خالص التحایا والأمنیات الطیبة لأھل تلك البقاع الوادعة والواعدة. خالص الشكر وأجزله للباشمھندس جعفر حسن بإدارة الطرق بالأبیض وقتھا. والخبیرین السید صلاح أحمد محجوب بإدارة میاه الولایة والسید عبد الله میرغني بمنظمة إیفاد. الشكر مَوصولٌ لكل من تابع ھذه التدوینات، وللجمیع وافر الود وعطر التحایا.
ودُمتم في حفظ الله…

صحيفة الصيحة